تحدثنا في المقالة السابقة عن كتاب الخطيئة والتكفير لعبدالله الغذامي باعتباره مدخلا أساسيا للحديث عن مرحلة الحداثة الأدبية في المملكة وقلنا إنه أحدث صدمة هائلة في الجسم الثقافي لدينا وميزنا الخصوم أو المواقف التي واجهته حيث ذكرنا منها الموقف الأول وهو موقف الرواد.
كان هؤلاء الرواد يواجهون صدمة شديدة تكاد أن تزلزل كياناتهم المعرفية ، إذا كيف يقرأون كتابا يؤلفه واحد من أبناء هذه البلاد هو في حكم تلامذتهم ثم يقفون بكل ثقافتهم وريادتهم عاجزين أمامه لا يفهمون شيئا مما يقول، خاصة ذلك الجزء النظري الذي استعرض فيه الغذامي بعض المناهج اللغوية والنقدية الحديثة والتي لم يسمعوا عنها شيئا طوال فترة بنائهم المعرفي كالبنيوية والسميولوجيه والتفكيكية (التي كان الغذامي يسميها التشريحية) ومفاهيم كالصوتيم (الفونيم) والصرفيم (المورفيم) ومفاهيم أخرى غيرها.
ربما كان مما زادهم حيرة وحسرة أن الكتاب في الجزء التطبيقي منه كان على واحد من أنبههم وهو الشاعر والمفكر الكبير المرحوم حمزة شحاته (1910م - 1972م) (الكاره للشهرة والعازف عنها) الذي عرف على نطاق واسع بعد محاضرته الشهيرة (الرجولة عماد الخلق الفاضل ) التي ألقاها عام 1940 في جمعية الهلال الأحمر الخيرية واستمرت لمدة خمس ساعات متواصلة.
والذي عرف على نطاق شعبي باعتباره صاحب الأبيات العذبة المشهورة:
بعد صفو الهوى وطيب الـوفـاق
عـز حتى السـلام عـند التلاقي
يا معافى من داء قـلبي وحـزنـي
وسليما من حرقتي واشتياقي
هل تصورت ثورة اليأس في نفسي
وهـول الشقاء بعـد فراقـي
إذ تهـيأت للسلام فلم تـفـعـل
فأغـريت بي فضـول رفاقـي
هبك أهـمـلت واجبي صلفاَ منك
فـمـا ذنب واجب الأخـلاق
أنت حر والحسن لا يعرف القيد
فصـادر حـريتي وانطـلاقي
التي تغنى بها الفنان محمد عبده (كموال) ومقدمة للأغنية التي كتب كلماتها الشاعر حمزة شحاته نفسه (مالي أراها لا ترد سلامي): https://www.youtube.com/watch?v=pNmgXeSwvtQ .
كما غناها محمد عبده نفسه بشكل أكثر إبداعا وتمثلا لروح الكلمات كمقدمة ومدخل للأغنية الشعبية الجميلة والشهيرة (ودعتك الله يا مسافر): https://www.youtube.com/watch?v=os4gFFIVL4c والتي دائما ما يحضرني أحد أبياتها لجماله (والله لو يزعلوا البصرة وأهل العراق انت القمر والنجوم).كما أن الفنان طلال مداح رحمه الله كان تغنى أيضا بنفس الأغنية : https://www.youtube.com/watch?v=vp2wR7zHI6U تناول الغذامي في ذلك الجزء (التطبيقي) من كتابه (الخطيئة والتكفير) إضافة إلى شعر حمزة شحاته جانبا من حياته ورسائله إلى ابنته الكبرى (الكوبرا) كما كان يحب أن يداعبها الإعلامية والمذيعة القديرة المرحومة شيرين حمزة شحاته وهي-الرسائل- التي صدرت لاحقا في كتاب (إلى ابنتي شيرين). كان من الصعب على أذهان وعقول هؤلاء الرواد أن يفهموا شيئا مما كان يعرضه الكتاب كما أسلفنا وكان من الصعب على نفوسهم أيضا أن تتقبل عدم الفهم هذا، لكنهم ظلوا متمسكين برقيهم الأخلاقي والفكري دائما ولم يحدث أن عبروا مرة عن أي موقف سلبي ضد الكتاب والكاتب أو ضد الحداثة وأدبائها ونقادها بشكل عام خارج الإطار المقبول لاختلاف المراحل والمدارس وصراع الأجيال الذي اقتضت حكمة الله ظهوره في كل عصر بين قديم يحلم بالبقاء وجديد يرنو للولادة وما يستتبع ذلك من صراع جدلي (بالمفهوم الهيجلي) وما يزهر عنه في النهاية من روح جديدة امتزج فيها النقيضان ، كما أن اعتراض هؤلاء الرواد إن وجد لم يتجاوز احتجاجا مؤدبا على صعوبة الكتاب (كتاب الغذامي) ولم يتجاوزوا يوما الحديث خارج الإطار الثقافي ولم يصلوا إلى أمور أخرى كما حدث من الاستاذ محمد عبدالله المليباري الذي سنأتي على ذكره لاحقا. كان الغذامي أيضا يبدي احتراما وتبجيلا كبيرا لهم و خاصة للأستاذ محمد حسين زيدان الذي كان يسمي الغذامي (بالقذامي) بالقاف بدل الغين ، وحدث في إحدى المرات وهو على منصة النادي الأدبي بجده أن زل لسانه باسم القذامي فنطقه (القذافي) !!
يتبع...
- محمد الدخيل