قمرٌ فضوليٌّ على الأطلال, يضحك كالغبي
فلا تصدِّق أنه يدنو لكي يستقبلك
هُوَ في وظيفته القديمة، مثل آذارَ
الجديدِ.. أعادَ للأشجار أسماءَ الحنينِ وأهمَلكْ
- درويش
ومن ذكريات رمضان أن القرية كلها كانت تفطر في المساجد.. لا أحد يفطر في البيت، وقد كان الإفطار بسيطاً ومتشابهاً وطيباً وكله من خيرات الأرض، وكان الكل يتشاطر مع الكل ويتباسط «دون سماجة» مع الكل وكل هذا « الكل» يفترش حصيرة واحدة في باحة المسجد وعلى ذات الحصيرة أو حصيرة أخرى تقام الصلاة وكنا نصلي بخشوع يكاد يصعد بنا للسماء.
وقبل أن نعود لمنازلنا عادة ما نحدق في الأفق وكنا نعتقد يقيناً أن قمر شهر رمضان قمر مختلف قمر مستعار لرمضان فقط وكنا نرى فيه بهاء مختلفاً.. كنا نرى فيه أطياف ملائكة.
وقبل أن نعود من المسجد كنا نهب الغرباء باقي طعامنا. كان الطعام شحيحاً ولم يكن بهذه الوفرة وأحياناً ندعو الغرباء إلى منازلنا يتقاسمون معنا فنجان القهوة والشاي والحكايات، ولكل غريب حكاية ولديه أخبار وتفاصيل سمعها وهو يعبر القرى وحتماً يريد قولها ونقلها حتى وإن لم تكن تهم أحداً، لكن الناس اعتادت البوح.. الناس دائماً بحاجة للكلام وللمشاطرة ولرواية الأخبار، وسأظل أتذكر أني سمعت أشياء من هؤلاء الغرباء وأنا طفل وما زالت في الذاكرة ، ذاكرة الأطفال طرية لحفظ الكلام الغريب والمختلف والغرائبي ولم تكن الحكايات بتلك الدهشة، لكنها كانت حكايات جديدة وكانت هي كل ما يمكن أن يرسم دائرة في بركة سكون الحياة.
ومن العادات في رمضان قدر طعام تعده النساء في ما بينهن بالتناوب للمسجد كل ليلة, هذا القدر كنا نبتهج به نحن الصغار وكأنه طعام صباح العيد.
كان هذا القدِر صدقة النساء للغرباء والعابرين ومن أجل مقاعد الغائبين الفارغة، وكانت النساء يقلقن حتى يعود القدر الفخاري من المسجد، وكل ما كان فارغاً أو شبه فارغ كان ابتهاج السيدة التي أرسلته أكبر، وهو قبل أن يكون تأكيداً على مهارتها في الطبخ يكون دلالة على نيل الأجر الذي كن يتأملن، وكنت أنا وإخوتي ننتظر دورنا منذ أول الشهر ونسأل أُمنا كل يوم ذات السؤال: متى صدقتنا وكان الجواب قريباً.. قريباً، وعندما يصل هذا القريب نبتهج.
والآن لا أحد يفطر في مساجد القرى سوى المؤذن وحيداً والمسجد بالكاد يتسع للمصلين وأصواتهم العالية جداً ولكن لا أحد يستمع إلى أحد وربما لا أحد يعرف أحداً والكل غرباء دون حكايات تقال ولا أحد يحدق في صدر السماء حيث يكبر القمر وحتى القمر لم يعد أكثر من عابر غريب.. عابر دون حكايات.
ويا رمضان.. يا كتاب فرحنا الأبدي عاتبنا قليلاً ولربما انتظرناك أنت ولم ننتظر كما نفعل الآن عربات التسوق وشاشات الأجهزة التي حولتنا أرقاماً وصوراً ورسائل نمحوها قبل أن نقرأها لأننا نعرفها كما يعرف المسافر وجهة السفر.
- عمرو العامري