د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لعل من المناسب طرح فكرة، نستلهم منها عبرة، حدثت في عهد محمد بن عبدالرحمن بن الحكم الملقب بالربضي، بن هشام بن عبدالرحمن الداخل الأموي، وهو الأمير الخامس من أمراء الأندلس في فترة حكم بني أمية لها، وكان الحكام هناك امتنعوا عن لقب الخليفة احتراماً للوحدة الإسلامية تحت راية واحدة هي راية الخليفة العباسي في بغداد حتى وإن كان بين الأسرتين من النزاع والحرب ما لا يخفى على أكثر الناس، واستمر ذلك حتى منتصف عهد عبدالرحمن الناصر، الذي تلقب بالخلافة بعد أفول نجم الخلافة في بغداد.
كان الأمير محمد بن عبدالرحمن حاكماً، وكان وزيره آنذاك هاشم بن عبدالعزيز، وقد أحس هاشم في فترة من ولايته أن أحد خدام الأمير، قد نال حظوة خشي عاقبتها على مقامه عند الأمير فحشد من كل جانب عليه، ووظف أعوانه للنيل منه، وتشويه سمعته، وسوء مشورته، وقلة تدبيره، وغموض سريرته.
وذات يوم دخل هاشم على الأمير، وتطرق إلى ذكر الخادم ليرى رأي الأمير فيه، فلم سيستنكر من حالته شيئاً، فكرر المحاولة وجند جنده من المنافقين، والنمامين، لكنه لم يلمس تغيراً من الأمير عليه، ولم يتزحزح حسن ظنه به، فقرر أن يبادر الأمر بنفسه، ويدلي هو بدلوه، فتحين فرصة متاحة يكون فيها الأمير صافي الذهن، سعيد بتحقيق مأرب رامه، فبسط قلبه للأمير وفتح معه موضوع الخادم، ونال منه أكثر مما نال أعوانه منه، وقال ما أسعفه لسانه وما أملاه جنانه من مستنكر القول ومستوحشة، والأمير صامت يستمع إلى قول وزيره، فلما أكمل الوزير قوله، قال له: يا هاشم فماذا ترى في أمره، فقد كثر علينا في جانبه؟ قال: التنكيل به والتشريد له، قال الأمير: يا هاشم، على رسلك، قم إلى الكوة، التي في المجلس، وخذ ضبارة الكتب التي فيها، فإذا بها تشتمل على نحو من مائه كتاب (خطاب)، فقال له: اقرأ، فإذا كل كتاب موجب لقتل الوزير، فجعل يقرأ، ويده ترعد، وجبينه يرشح، ووجهه يزبد، فإذا فرغ من كتاب أمره بأخذ غيره، حتى أتى عليها، فقال يا هاشم، ما معذرتك في هذا؟.. فجعل يتنصل ويحلف ويقول: حسادي، وأهل الطعن، والتنافس بنعمة الأمير، أبقاه الله عندي، وحسن رأيه في كبير، والأمير سيدي، أعزه الله، أولى بالتثبت في أمري، والإبقاء عليّ، حتى تنكشف براءتي، ويتضح له وجه عذري وهو على فعل مالم يفعل، أقدر منه على رد ما قد فعل، فقال الأمير: يا هاشم، رب عجلة أعقبت ندماً، وليس من شيمتي الإسراع، ولو كانت تلك، لكنت أول من هلك، ولقد خبرنا هذه المطالبات، فرأينا أكثرها إفكاً وزوراً، ومع هذا فلو رددنا إفك الآفك منهم، وأظهرنا له الإعراض عن تقبل منهم، انكسروا عن مناصحتنا، ونكلّوا عن مكاتبتنا، ولكنا نعي ذلك فهماً، ونحيط به علماً، حتى نأتي عليه بعين جلية، وصدق روية، فإياك أن يعرف أحد من أصحاب هذه البطائق التي أطلعناك عليها أنك فهمت شيئاً منها، فإنه إن علم أحد منهم أنه ذاعت من كتابه لفظه عاقبتك بها أشد العقوبة، ولم تقم عندي لك بعد ذلك قائمه، فأنظر لنفسك أو دع.
وأرسل الأمير وزيره هاشم في بعض الغزوات فأنكسر جيشه وأسر، وقال الحساد ذلك لطيشه وعجلته، وقلة إحكامه لنظره، وكان الوليد بن عبدالرحمن بن غانم حاضراً مع الوزراء، وكان بينه وبين هاشم منافسة لكن مروءته في هذا الموقف ظهرت، فقال للأمير: أصلح الله الأمير، لم يكن على هاشم التخير في الأمر، ولا الخروج عن القدر، بل استفرغ نصحه، وأعمل جهده، وحامى استطاعته، فأسلمه الله بخذلان من معه، ونكول من أطاف به، فجوزي عن نفسه وسلطانه خيراً.
فأعجب ذلك القول الأمير، وسّري عنه فيه، وعندما كان هاشم في الأسر، صرف ما كان بيد هاشم من دار الخيل والقيادة إلى الوليد بن عبدالرحمن بن غانم، فقال: إنما كان هاشم خادمك، وسيفاً من سيوفك فليحسن الأمير في خلافته، وليمض أحد أبنائه في الخدمة، فقال يا وليد: مثلك ذكّر بشريف المنقبة، وخص في سني المكرمة، وأفضل أصحابنا عندنا الناصح في المشورة، والمذكر عند الغفلة، الباعث على المصلحة، وقد استحسنا ما رأيت فمر ولده في التمادي في خدمته، وقم بإدخالهم في خدمتنا، وعليك الإشراف عليهم بحسن نظرك.
في هذه القصة ما يكفي من الحكم، وبمثل هذا الفعل تسود الأمم، فلم يأخذ الأمير بقول الوزير في منافسيه، ولم يأخذ بقول منافسيه وحساده فيه، ولم يرد الأفاكين حتى لا يمنعهم عن المناصحة. إنها دروس في التعامل، وحسن التدبير، والانصراف عن حسد الحاسدين. كما أن الوزير الوليد وهو خصم ومنافس هاشم قد برزت مروءته بعد ما أصاب منافسه نكبة من نكبات الدهر، ولم يستغل الظرف للنيل من الخصم، فيالها من أخلاق راقية، ومواقف نبيلة، ودروس مفيدة، ترفع الجميع عند الملمات، وسمو بأنفسهم عن سابق الزلات، رحمهم الله، فقد تركوا لنا أثراً يحتذى.