«الجزيرة» - راشد الزهراني:
في وقت تصاعدت فيه دعوات المواطنين في محافظة جدة لوزارتي الشؤون البلدية والقروية والعمل وهيئة المهندسين إلى دراسة مشكلة تشققات العمائر وتحولها إلى آيلة للسقوط رغم حداثة بنائها وإيجاد الحلول الفنية الكفيلة بإنهائها وتلافي حدوثها مستقبلا، عزى مقاولون ومطورون عقاريون وجود تصدعات وتشققات لكثير من العمائر السكنية في جدة إلى وجود الزلازل المتكررة وارتفاع المياه الجوفية الناتجة عن عدم توفر التصريف الصحي، ما يتسبب في خسائر وصلت إلى مليارات الريالات وهي في ارتفاع متزايد نتيجة تأخر بعض الجهات المعنية في إيجاد حلول جذرية، فيما اتهم مهندسون من أسموهم بـ(مقاولي الشنطة) بالتسبب في هذه المشكلة نتيجة الخلل الكبير في الإنشاءات، مطالبين هيئة المهندسين بالتدخل في شأن مؤسسات المقاولات العشوائية والتي تستعين بالعمالة السائبة. وقدروا حجم خسائر الأخطاء الهندسية بأكثر من 20 مليار ريال، حيث أن عددا من أحياء جدة تعاني من تشققات المباني والبعض منها آيلة للسقوط ومنهم من أعاد بنائها وآخرون تركوها خاوية، مع أن عمر المبنى لا يتجاوز سنوات قليلة.
«الجزيرة» تناولت تفاصيل المشكلة من كافة جوانبها الفنية والعقارية، مستطلعة آراء مختصين في القطاع ولهم اطلاع مباشر على مسببات المشكلة، وكانت أمانة محافظة جدة قد أعلنت عبر موقعها الرسمي عن ورود بلاغات عدة إلى الدفاع المدني في المحافظة تفيد بوجود تشققات وتصدعات في عديد من العمائر السكنية المعدة للتمليك، وعزت «أمانة جدة» تلك التشققات والتصدعات إلى أن ملاك العمائر أو المقاولين لا ينفذون البناء وفق الأصول الهندسية المعتمدة من «الأمانة»، خصوصا فيما يتعلق بعمليات الدك القياسية للتربة.
تهاون أنظمة الأمانة في فحص التربة
بداية تحدث المهندس عادل عبدالعظيم طاشقندي – خبير في هندسة التربة - قائلا: انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة تصدع وشروخ المباني السكنية في مدينة جدة بشكل ملحوظ بعد التمدد العمراني السريع بكثافة كبيرة خارج النطاق العمراني المعروف، وأوعز البعض أن سببه تأثير الزلازل، ولكن يمكن القول استنادا لتصريح الدكتور زهير نواب رئيس هيئة المساحة الجيولوجية السعودية إن السجل التاريخي لمدينة جدة والجزء المتاخم لها من البحر الأحمر للفترة من 1904م حتى تاريخه يتضح أنها تخلو تماما من مواقع الزلازل بمقدار أكبر من 4 درجات “ريختر”، خلال هذه الفترة الطويلة، وأن معظم الزلازل في المنطقة تتركز في منطقة تقع في وسط البحر الأحمر إلى الجنوب من مدينة جدة عند منخفض سواكن المقابل لمدينة بورت سودان الساحلية في السودان وتبعد عن جدة مسافة تبلغ نحو 200 كم، بالإضافة لعدد محدود من الزلازل المتفرقة في وسط البحر الأحمر جنوب غرب جدة ..وبناء عليه فإنّ الدراسات أوضحت عدم حدوث زلازل تاريخية قوية في البحر الأحمر يمكن أن تؤثر في مدينة جدة ..
وأضاف طاشقندي: بحسب خبرتي العلمية والعملية فإن السبب الرئيسي والمباشر في تصدّع وشروخ المباني هو عدم اختيار نوعية الأساسات المناسبة والآمنة لحالة التربة الباطنية في موقع المبنى، وتظهر هذه الحالة جلية في المباني التي يقل ارتفاعها عن 3 أدوار، نظراً لعدم اشتراط بلدية جدة عمل فحص واختبار للتربة كشرط أساسي للحصول على رخصة البناء كما هو الحال في المباني العالية.. علماً أنّ التربة الباطنية في بعض المناطق بجدة المكونة من الردم العشوائي والطين المتحجر تتطلب نوعا معيناً من الأساسات والمعالجة الفنية لأرضية التأسيس قبل تنفيذ المبنى ولا يُمكن معرفة وتحديد ذلك إلاّ بإجراء فحص واختبار للتربة.
وزاد: معظم المباني المشيدة في مخطط الرياض شمال شرق جدة تعاني منذ أكثر من خمس سنوات شروخا وتصدعات رهيبة بسبب التربة الطينية الجافة المضغوطة والمتحجرة وعند وصول المياه إليها في مساحة محدودة دون البقية بأرضية التأسيس بعد تنفيذ المبنى يحصل في التربة هبوط حاد، مما يتسبب في الهبوط الغير منتظم للقواعد بدرجة عالية مسببّاً الشروخ والتصدعات في حوائط المبنى. وأهيب بأمانة محافظة جدة أن تعمّم نظام فحص التربة لأي مبنى بغض النظر عن ارتفاعه.
مخاطر الصرف الصحي تفوق مخاطر الزلازل
ويقول المختص الدكتور أمين ساعاتي: إذا كانت جدة قد تحملت زلزالا بقوة 6,7 ريختر في الماضي، فإنها تحملت هذه الضربة لأن رقعة جدة العمرانية كانت لا تتجاوز كيلومترين اثنين في أربعة كيلومترا، أمّا حينما تتجاوز رقعتها العمرانية الـ 50 كيلومترا في 50 كيلومترا، وتمتد بعض عماراتها إلى أكثر من 20 دوراً، وكذلك تعج بمباني العشوائيات التي لم تراعِ اشتراطات البناء ضد الزلازل ولا حتى اشتراطات البناء المسلح، فإن جدة إذا صعقها الزلزال اليوم بقوة 6 ريختر - لا سمح الله - فإنها ستدفع الثمن غالياً، لا سيما بعد أن طرأ على جغرافية جدة تغيرات كثيرة، منها أن جزءاً كبيراً من شواطئ مدينة جدة تم ردمه في عهد أمين مدينة جدة الدكتور محمد سعيد فارسي بعرض يتراوح بين الكيلو متر والثلاثة كيلو مترات، كما أن منسوب المياه الجوفية بلغ في بعض الأحياء مستوى سطح الأرض، ومما زاد الطين بلة أن تعثر مشاريع الصرف الصحي لنحو نصف قرن مع استخدام البيارات التقليدية التي سمحت للصرف الصحي بالتسلل إلى قواعد المباني، وكذلك انسياب مياه الصرف الصحي فوق سطح الأرض. وكل هذا ألحق أضراراً بالغة بالتربة التي تحولت من تربة صلبة إلى تربة ندية هشة، ومن تربة تتماسك فوقها المباني إلى تربة تتداعى فوقها المباني، لأنها أصبحت مشبعة بمياه الصرف الصحي المدمر.
وأضاف: اليوم مدينة جدة ليست كالأمس، فقد ارتفعت العمائر الشاهقة لتناطح عنان السماء، وبالذات العمائر الحديثة المطلة على الكورنيش، وهذه العمائر وغيرها من العمائر التي تزيد على الأدوار العشرة في داخل المدينة عُرضة لأي مكروه زلزالي، ولذلك يجب أن نبادر إلى وضع التشريعات النظامية التي تتعامل مع الضربات الزلزالية، وبالذات بالنسبة لاشتراطات المباني، وما يجب أن تكون عليه هذه المباني من تأسيس ومواد قوية تمنع أو تخفف الكثير من الأضرار حتى تكون الخسائر - لا قدر الله - في أدنى مستوياتها.
قضايا المخالفات داخل أروقة المحاكم
وقال عبدالله الأحمري الخبير العقاري ورئيس اللجنة العقارية بالغرفة التجارية بجدة (سابقا) إن الوضع جد خطير ويجب أن تتضافر جهود الجهات المعنية حيث وصلت هذه الأزمة إلى المحاكم بسبب الخسائر المادية، فهناك العديد من القضايا منظورة في المحاكم بين الملاك والمقاولين وبين المكاتب الهندسية المخالفة لاشتراطات السلامة وكان الضحية ذلك المواطن وعلل الأحمري وجود التشققات يعود لأسباب مشتركة بين المقاول والملاك والمكتب الهندسي فالمواطن يبحث عن السلع الرخيصة دون النظر إلى الجودة وكذلك المقاولين الذين يتاجرون في شقق التمليك والمكاتب الهندسية الغير مرخصة والتي لا تتقيد بتعليمات الأمانة في فحص التربة ومتابعة سير العمل منذ التأسيس وحول ما قد تسببه الزلازل المتكررة في جدة من التشققات والتصدعات في العمائر، قال الأحمري: لم تكن الزلال في يوم من الأيام سببا في التصدعات كما يدعي بعض (مقاولي الشنطة) وإنما جعلوها شماعة لتستر عيوب أعمالهم. والدليل ما نشاهده في عمائر الإسكان سواء في منطقة الشرفية وسط المدينة أو التي في جنوب جدة والتي تصل الأدوار فيها إلى 17 دورا وعمرها قارب الـ 30 عاما ويزد ولم تعاني هذه التصدعات وذلك لجودة الأساسات والبنية التحتية. ولكن السبب كما أوضحه المهندسون يعود إلى سوء التنفيذ واستخدام المواد المخالفة للمواصفات والمقاييس وكذلك كادر العمالة العشوائية وجهل المقاول وانعدام الرقابة من قبل صاحب العمل.
يقول المهندس خالد الغامدي إن عمق بعض المواقع أصبح لا يتعدى 50 سم بعد أن كان على عمق خمسة أمتار في ظل عدم وجود عوازل للخرسانات وضعف البنى التحتية وتدني جودتها في عديد من المباني في جدة وكذلك الجهل بنوع التربة وطبقات التربة تحت أي مبنى، فمعظم المواطنين والاستشاريين والمهندسين يصمم حديد التسليح وكمية الخرسانة في المباني والمشاريع دون النظر إلى تقارير التربة، وهل هي تربة انتفاخية أو انهيارية أو ردميات أو رملية أو طينية؛ ما يتسبب في ظهور تصدعات وتشققات قطرية في معظم الخرسانات وكسور قطرية حول الشبابيك والأبواب وفتحات المكيفات.
ويقول المهندس محمد داعش إن عدم مطابقة كثير من مصانع الخرسانة للمواصفات العالمية يعد من أسباب هذه التصدعات، مشيرا إلى أن أمانة جدة قد قامت في وقت سابق بجولة على جميع مصانع الخرسانة الجاهزة في المحافظة، واكتشفت أن من أهم أسباب تسارع تآكل الخرسانة المسلحة في مباني جدة استخدام خرسانة محلية الصنع غير مطابقة للمواصفات من حيث حرارة الخرسانة وقلة وجود الإضافات والمحسنات للخرسانة مع ارتفاع نسبة الملوحة في بعض مصادر مياه الخلط في بعض مصانع الخرسانة الجاهزة.
وقال المهندس حسين بن راجح: لا بد من أن نسأل هل جدة أو غيرها تتعرض لزلازل يمكن أن تؤثر على المباني بشكل مباشر. فجدة بها الكثير من المباني أغلبها لم يطبق عليها معايير أو كود الزلازل وما زالت صامدة ومنها قاربت الـ 40 عاما ويزيد ولا يوجد بها مؤشرات لتعرضها للظواهر البيئة المؤثرة، وأضاف: صحيح أن تصميم المبنى ليكون مقاوم للزلازل أمر جيد. ولكن القول بأن ما تتعرض له بعض المباني من مظاهر سلبية في بعض العناصر هو بسبب الزلازل الغير محسوسة كما يدعي بعض المقاولين ليس صحيحا بل إنه بسبب عدم مراعاة المقاول للأصول الهندسية واستخدام العمالة غير الكفؤة ناهيك عن عدم تطبيق الإشراف الهندسي بالطريقة الصحيحة.