د.عبد الرحمن الحبيب
في الوقت الذي يختلف فيه الفرقاء السياسيون في العراق، تزداد سيطرة المليشيات على العراق.. وفي الوقت الذي يتقدم فيه تحرير الفلوجة من داعش، تتصاعد التفجيرات اليومية في بغداد.. فما فائدة تحرير الفلوجة إذا صارت بغداد رهينة بيد المليشيات الطائفية؟ إذا كان الجميع يتفق على أولوية الحرب ضد داعش وحتمية هزيمته، فلا أحد يعلم ما سيؤول إليه الوضع بعد ذلك، وما هو السيناريو المتوقع.. إنه سيناريو بلا مُعِد ولا مُخرج، يمارسه الممثلون على مسرح الواقع ويدعمهم العديد من المنتجين الانتهازيين.. أما نهاية القصة ففي مهب الريح! لنبدأ القصة الغصة بتفجيرات بغداد خلال أربعة أعوام.. في عام 2012 كانت موجات التفجيرات الكبرى التي نفذها داعش تتوالى كل شهرين تقريباً، ارتفعت الوتيرة لتصبح كل 8 أيام، ثم تصاعدت عام 2013 من 20 عملية شهرياً إلى أكثر من 50 عملية. وبحلول صيف 2013، كان المعدل نحو 90 عملية في الشهر. تلك أرقام مفجعة يرويها مايكل نايتس محلل المخاطر لأكثر من عقد في بغداد (معهد واشنطن)، ذاكراً أن العمليات انحسرت كثيراً منذ عام 2014 عندما انشغل داعش باحتلال الموصل وأجزاء أخرى بالعراق وسوريا، لكن عندما ازدادت فعالية القوات المضادة وفرضت نكسات عليه، عاد لتصعيد عملياته التفجيرية. حالياً، أشار موقع «ضحايا حرب العراق» إلى أن المتوسط الشهري لأعداد قتلى التفجيرات في مختلف أنحاء العراق بالثلث الأول من عام 2016 بلغ 1081 شخصاً، وكانت حصيلة ضحايا شهر مايو الأعلى من أي شهر منذ بداية هجمات داعش في صيف 2014.. والمرجح أن يكون هذا الشهر (يونيه) أعلى، ففي أسبوعه الأولى بلغ عدد الضحايا بضعة مئات.. ماذا نستنتج من لغة الأرقام المحزنة هذه؟ إن انخفاض وتيرة التفجيرات في بغداد خلال عامي 2014 و2015 ناتج عن انشغال داعش في المدن التي احتلها، وكأنه كان «فرصة» مؤقتة للحكومة المركزية كي تلتقط أنفاسها وترتب أوضاعها.. وهذا الذي لم يحصل. فما هي الرؤية السياسية والأمنية الشاملة لهذه الحكومة إذا تم تحرير الفلوجة الذي يبدو أنه على وشك الحصول؟ الإجابة بوضوح: لا توجد رؤية لدى الحكومة، بل بدأت المليشيات الطائفية المدعومة من إيران تحكم سيطرتها تدريجياً على الوضع في بغداد لتأمينه من الفلتان في ظل عجز الحكومة التي يبدو أنها هربت إلى الأمام نحو الفلوجة تاركة الأوضاع في العاصمة للأمر الواقع.. إذ لم يتمكن رئيس الحكومة ولا البرلمان أو حتى التتلات السياسية النظامية من تشكيل رؤية سياسية مشتركة أو حد أدنى من التوافق.. ورغم أن المليشيات الطائفية المدعومة من إيران لديها سجل حافل في جرائم الحرب، وأغلبها مدرج دولياً في قائمة الإرهاب فضلاً عن عمليات الإدانة الدولية المستمرة لها.. وآخرها الأسبوع الماضي بتقرير للخارجية الأمريكية الذي ذكر أن إيران تتصدر قائمة الدول الأكثر رعاية للإرهاب، سواء مالياً أو تدريباً أو تجهيزاً لجماعات إرهابية حول العالم خاصة في العراق (سي إن إن)، ورغم ذلك فهذه الجماعات تتوسع وتحكم سيطرتها في العراق، فيما الأنظار لا ترى سوى الحرب على داعش في الفلوجة.. فما هو السيناريو الأكثر احتمالاً، بعد تحرير الفلوجة ثم الموصل التي يقال أن الدور سيأتيها نهاية العام أو العام المقبل؟ المتفائلون يراهنون على أن رصيد الحكومة المركزية سياسياً سيكون جيداً لاستثماره بعد انتصارها في الفلوجة. لكن حتى بعد تحرير هذه المدينة المتهالكة فإن مشاركة الجيش النظامي تبدو بائسة مقابل مشاركة الآخرين سواء غير النظاميين أو التحالف الذي تقوده أمريكا.. فأي رصيد معنوي تملكه الحكومة؟ المحزن أن التوقع الغالب، حسب السياق الحالي وحسب تداعي لغة الأرقام، ألا يحظى سكان بغداد بالأمن النسبي الذي شهدوه منذ عام 2014.. وستسعى الميليشيات الطائفية لتولي زمام السيطرة على أمن مدينة بغداد وانتزاع ما تبقى من قوات الأمن الحكومية، التي فشلت ليس في الحد من التفجيرات، بل عجزت عن حماية مرافقها. ورغم أن قطاعاً كبيراً من العراقيين يرفضون حكم الميليشيات إلا أنهم بحاجة لبديل مناسب لا توفره الحكومة المركزية.. إنما الاستعانة بمليشيات طائفية كمن يستعين بذئاب لحماية الحملان.
بين هذا وذاك، أغلب الاحتمالات أنه سينشب خلاف حاد في التصورات السياسية لما بعد هزيمة داعش بين الأطراف الموجودة على الأرض.. وكلما كان سقوط تنظيم داعش سريعاً كان الاحتمال أكبر لنشوب الخلافات بين القوى المشاركة في العمليات العسكرية على التصور السياسي للمرحلة القادمة مع غياب خطة وتصور متفق عليه، مما قد يفضي إلى عراق مقسم على أساس إثني وطائفي، كما تقول صحيفة الغاردين. إذن، لن تكون المشكلة في بغداد فقط، بعد تحرير الفلوجة أو حتى الموصل.. بل الغالب أن الأزمة ستتفاقم لأجزاء أوسع لتزداد سوءاً، لكن ليس على طريقة «اشتدي أزمة تنفرجي» بل على أساس المجهول كأفضل التوقعات.. وإذا كان المجهول يحمل مفاجآت فلعلنا نأمل ألا تكون محزنة، فلم يعد بالإمكان أكثر من هذا الحزن..