د.عبد الرحمن الحبيب
قيل كثيراً عن رؤية المملكة 2030؛ أكثرها تداولاً هو أنها وخطتها وبرامجها رائعة لكن الحكم على التنفيذ وليس على الكلام! الآن، ظهر إطار حوكمة شامل للتحقق من التنفيذ.. ومن المتوقع ظهور ذات النقد التنفيذي للحوكمة.. إنما بداية، ما هي الحوكمة؟
على وزن فوعلة مثل عولمة وحوسبة، شاع كثيراً مصطلح «الحوكمة»، ولكنه غامض، وملتبس مع مصطلح الحكومة. مفردة الحوكمة ترجمة قديمة من اليونانية بمعنى «توجيه» استخدمتها اللغات الحديثة بدلالات مختلفة. هذه المفردة شاعت وأعيدت دلالاتها منذ عقدين، وأكثر من نشرها مؤسسات دولية كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هذا الأخير عرَّفها باعتبارها الطريقة التي تمارس بها السلطة إدارة الموارد الاقتصادية والاجتماعية للبلد لغرض التنمية.
ما الفرق بين الحكومة والحوكمة؟ الحوكمة هي ممارسات والحكومة هي الأداة التي تقوم بهذه الممارسات. بالمجمل، يمكن القول إن الحوكمة هي النشاط الذي تقوم به الإدارة (سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية..)؛ وهي تتعلق بالقرارات التي تحدد التوقعات، أو الصلاحيات، أو التحقق من الأداء.
تلك مقدمة لتناول ما أعلنه مؤخراً مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية عن نظام حوكمة متكامل لتحقيق رؤية المملكة 2030 . هذا النظام حدد أدوار ومسؤوليات الحوكمة على ثلاثة مستويات. الأول على مستوى رسم التوجّهات والاعتماد. التوجيهات ووضع الآليات يتولاها مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية؛ واعتماد التمويل تتولاه اللجنة المالية. في هذا المستوى ثمة فريق إعلامي يتولى ترسيخ الصورة الذهنية لرؤية المملكة 2030 .
الثاني على مستوى تطوير الاستراتيجيات تتولاه اللجنة الاستراتيجية بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية وترفع تقاريرها للمجلس؛ فيما يتولى مكتب الإدارة الاستراتيجية بالمجلس دراسة وتحليل سبل ترجمة رؤية 2030 إلى برامج تنفيذية، ومن ثم الإشراف عليها ومتابعتها ودراسة أسباب التعثر، ورفع تقاريرها لمكتب الإدارة الاستراتيجية. أما مكتب إدارة المشروعات بالمجلس فيقوم بمتابعة المشروعات والقرارات ومدى تحقيق الأهداف، والرفع لمكتب الإدارة الاستراتيجية بشكل دوري. في هذا المستوى تقوم وزارة الاقتصاد والتخطيط بدعم الجهات ذات العلاقة وتوفر لها المعلومات اللازمة. هناك أيضاً مركز الإنجاز والتدخل السريع الذي يقدم الدعم في تصميم البرامج وتنفيذها، ويتدخل عند تعثر التنفيذ.
الثالث على مستوى الإنجاز: تعد الجهات التنفيذية (الوزارات والهيئات..) هي المعنية أساساً بتطوير وتنفيذ البرامج. وفي هذا المستوى يظهر المركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة الذي يناط به تعزيز الشفافية ومشاركة المجتمع في متابعة وقياس التنفيذ والتزام الجهات بإنجاز الأهداف وإبراز أي تعثر..
وقد وضعت آلية لحل الإشكالات التي تواجه التنفيذ؛ وفقاً لأربعة مستويات بناءً على ما يتطلّبه الحل بشرط ألا تتجاوز المدّة في أي مستوى أسبوعين: الأول على مستوى الجهة المنفذة، وإذا تعذر حل المشكلة يتم تصعيدها إلى المستوى الثاني وهو مكتب الإدارة الاستراتيجية لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، الذي يطلب منه دراسة الموضوع ومعالجته، وإذا تعذرت المعالجة يرفع إلى اللجنة الاستراتيجية لتضع رؤيتها؛ وفي حال تعذر ذلك، يرفع الموضوع إلى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية للبت فيه.
كيف نقيِّم نظام هذه الحوكمة؟ حسب الأدبيات الدولية، عبر منهج عملي يحلل مدى توفر: الإدارة المتسقة، السياسات المتماسكة، التوجيه وعمليات اتخاذ القرار، الرقابة السليمة والمساءلة.. هذا المنهج يقوم على خمس وحدات تحليلية رئيسية: المشاكل، الجهات المعنية، المعايير، العمليات، المحاور. وعلى سبيل المثال طوَّر معهد البنك الدولي مؤشرات إجمالية لجودة الحوكمة لدى الدول: التعبير عن الرأي، المساءلة، الاستقرار السياسي، غياب العنف، فعالية الحكومة، جودة اللوائح التنظيمية، سيادة القانون، السيطرة على الفساد. كما ظهر مؤخراً مؤشر عالمي للحوكمة: السلام والأمن، سيادة القانون، حقوق الإنسان والمشاركة والشفافية، التنمية المستدامة، التنمية البشرية.
في نظام حوكمة رؤية 2030 نجد أن الطرح النظري متسق في إطار شامل متماسك.. بداية بتراتبية إطار الحوكمة الذي يبدأ بالجهة التنفيذية، فمكتب الإدارة الاستراتيجية، وينتقل للجنة الاستراتيجية، ثم مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية وأخيراً مجلس الوزراء.. مثلاً عند تعثر المشروع على الجهة التنفيذية حل المشكلة أو يتم تصعيدها لمكتب الإدارة الاستراتيجية الذي بدوره عليه تسويتها أو رفعها للجنة الاستراتيجية وهكذا..
أما المساءلة، في هذا النظام، فهي تتضمن عمل جهات عدة بطريقة تراتبية متسقة، فضلاً عن مركز الإنجاز والتدخل السريع باعتباره الذراع الداعمة للحوكمة؛ إنما أكثرها تحديداً المركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة الذي سيشكل البنية التحتية للحوكمة من شفافية وقياس الأداء وإشراك المجتمع من خلال نشر تقارير دورية مدققة كما جاء في النظام، مما يعطي الشفافية ركائزها الثلاث: توفير المعلومات، دقتها، وضوحها..
لم يكتف نظام الحوكمة بذلك بل إنه اعتنى بمسألة الشفافية لدرجة وضع الفريق الإعلامي في المستوى الأول للحوكمة، ومن مهامه كما جاءت نصاً:» تطوير الخطط الإعلامية [للرؤية].. والبرامج التنفيذية المرتبطة بها لإطلاقها للجمهور تعزيزاً لمبدأ الشفافية».
إذا كانت الحوكمة الرشيدة تتضمن عدة معايير فإن الحكم عليها، غالباً، سيتم من خلال المعايير الاقتصادية، مثل خفض البطالة وتحسين الظروف المعيشية وتحقيق التنمية الاقتصادية.. والأهم من كل ذلك قدرة نظام الحوكمة على محاسبة الجهات التنفيذية..