محمد آل الشيخ
الشريعة وتطبيقاتها مسألة مرنة، تدور مع مصلحة المسلمين حيث دارت. عمر بن الخطاب - مثلاً - علَّق حدَّ السرقة، نظراً للمجاعة التي حلَّت بدولة الإسلام (عام الرمادة)؛ وهذا يعني أن الإمام يحق له ألاَّ يلتزم بالنصوص، حتى وأن كانت حدًّا من حدود الله، طالما أن الواقع والظروف، والمتغيرات، تتطلب خلاف ذلك، ولم يعترض عليه أحد من الصحابة، وكذلك فعل - رضي الله عنه - فيما يتعلق بسهم المؤلفة قلوبهم في الزكاة، بحجة أن الظروف التي فُرض فيها هذا السهم تغيرت، فتغير بتغيرها الحكمُ نفسه؛ هذا التوجه المصلحي الذي نهجَه عمرُكثيراً في ممارساته السياسية، هو ما اصْطُلِحَ على تسميته فيما بعد (فقه المقاصد) والذي أشار إليه ابن القيم - رحمه الله - بقوله: (أينما كانت المصلحة فثمَّ شرع الله). كما أن القاعدة الفقهية المعتمدة لدى أصوليي فقهاء المذاهب، والتي تقول: (الضرورات تبيح المحضورات) تواكب تغيُّر الأحكام متى ما اقتضت الضرورة وواقع الحال ذلك، إضافة إلى أن الإسلامَ أعطى وليَّ الأمر الأحقية بتعليق المباح إذا رأى أن المصلحة تتطلب تعليق النص.
ما تقدم يجعل القول بأن الشريعة هي ما تمَّ اعتماده في القرون الماضية الأولى من صدر الإسلام، بغض النظر عن مقتضيات الواقع ومتطلبات المصلحة، الذي يقول بها (الثوار المتأسلمون)، وينتقدون انطلاقاً منها أنظمتَهم، ذريعة تفتقر إلى فهم عميق بتاريخ الفقه الإسلامي، وارتباطه الحميم بمقتضيات مصلحة المسلمين، حيث تدور معها الأحكام الشرعية حيث دارت واتجهت.
ولأن أرباب الإسلام السياسي غايتهم الحكم والسلطة، فلا يهمهم إلا اتهام الأنظمة الإسلامية القائمة بأنها لا تطبِّق الشريعة، ولا تكترث بالنصوص، ويتحاشون الركون أو الحديث عن العدل الذي هو المقصد الأساس الذي تهدف إليه الشريعة، لذلك حَكَم عمر، وهو الخليفة الثاني، وفي زمن الصحابة، الذين تشربوا بمطالب الشريعة، والتزموا بها عن وعي، بأحكام تختلف عما حكم بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ما يعني بكل وضوح أن (مقصد العدل) الذي هو غاية الشريعة، هو المعول عليه، وليس النص مجرداً.
وأنا على يقين تام أن المسلمين مستقبلاً سينتهون إلى تفعيل (فقه المقاصد)، وهو التوجه الفقهي الذي اشتهر به المذهب المالكي، فسيكون له - في رأيي - الغلبة والانتشار، لأنه يتواءم مع مقتضيات الظروف المتغيرة والأسباب الزمنية والمكانية وكذلك الثقافية ويأخذها في الاعتبار عند التمييز بين الحلال المقبول والحرام المرفوض دينياً فيما يتعلق بالأمور الدنيوية.
النقطة الثانية والهامة، أن فقه المقاصد، وتقديمه على فقه النصوص، هو الذي سيعطي لكثير من القضايا الشرعية المختلف فيها حلولاً عملية تتناسب مع العصر؛ ففقه النصوص، أيا كان مصدر هذه النصوص، لا يمكن إلا أن يرتبط بزمنه، وفي أحايين كثيرة إذا نزعته من زمنه ومكانه، وطبقته في زمن ومكان آخر، قد لا يؤدي غاية العدالة والإنصاف، وبالتالي يمكن القول: إن استيراد النص من الماضي، وفرضه على الحاضر، دون أخذ اعتبارات الزمان والمكان والمتغيرات في الحسبان، قد يسيء للشريعة، وبالتالي للإسلام؛ وأقرب مثالٍ لما أقول (أحكام الرقّ)، الذي تبيحه الشريعة في الماضي لاعتبارات موضوعية، وعندما اختلفت هذه الاعتبارات، اختلف الحكم من الإباحة إلى المنع.
غاية ما أقوله هنا أن فقه المقاصد سيجعل الشريعة وأحكامها أكثر مرونة، كما سيقف سدًّا منيعاً في وجه الانتهازيين المتأسلمين ممن يُعَبِّؤُونَ الجماهير متخذين من تطبيق نصوص الشريعة ذريعة تحريضية على الأنظمة وهز أمنها واستقرارها.
إلى اللقاء.