عبدالله بن سعد العمري
في العامين الأخيرين، التقيت العشرات من أنحاء دول العالم المختلفة ابتداءً من المتقدمة ونزولاً إلى النامية فالمتخلفة. هؤلاء العشرات من كافة القارات السبع والذين تشكلت معهم عدة صداقات جيدة في الولايات المتحدة أكسبوني الجرأة ولأول مرة على الاقتناع بجانب واحد من حقيقة ما يجري داخل العقلية العربية والخليجية والسعودية تحديداً. حالة من الدهشة سيطرت على مشاعري لحظة اكتشافي لانسدادات ثقافية تعاني منها مجتمعاتنا، بل وتزداد يوما بعد يوم.
الجميع منهم كان يرمز لشيء مهم من ثقافته، فالأمريكي لم يعد يأبه لاندهاشنا الثقافي بعد أن وصلت مراكب ناسا الفضائية إلى كويكب بلوتو في رحلة استغرقت 9 أعوام قطع خلالها أكثر من أربعة ونصف مليار كيلومتر، حسب التقارير. وصديقي الصيني شَنْ لم يعد يخشى الانتقاد وقد بات كل شيء تقريباً بعنوان «صنع في الصين». أما الكوريون فكانوا يقتنون الأسطول الحديث من شركتي هيونداي وكيا ومتاجر جالكسي. كما رأيت صديقي الياباني ريّو مشغولاً بفيلم عالمي صنعته شركة سوني اليابانية المنشأ، وأصبحت العالمية لديه مجرد كلمة عابرة وقد امتلأت الشوارع بسيارات تويوتا ولكزس ونيسان وهوندا. كان جميع مواطني هذه الدول المتقدمة يتخصصون في الحاسب والتقنيات واللغويات، تماماً مثلنا بيد أن الفرق بيننا هو سبقهم لنا.
ورغم أن بلدي المملكة العربية السعودية هو المصدر الأول للطاقة في العالم، ورغم ألا أحداً من أصدقائي في هذه القارات السبع في غنى عنّا، إلا أنني لم أجد شيئاً حتى اليوم في نظرهم سوى النفط يحدد تجربتنا في العالم. نعم النفط الذي حبانا الله به لا يزال هويتنا الأولى اليوم أمام العالم بغض النظر عن ديننا الحنيف أو مساهماتنا الخيرية. لكنني ومع ذلك بحثت عن شيء آخر أعرض به ثقافتنا المؤثرة في حياة العالم اليومية يشابه النفط، شيئاً ربما يكون أكثر إرغاما لأصدقائي السبعة لأن يكونوا منبهرين به منا. وقد حددت بحثي مقدما في تحديد أكثر الأشياء التي نحبها زعما مني أنها ستدلني إلى خياراتنا القوية في الاستعراض بثقافتنا العالية والعميقة أمام أصدقائي. وكانت العينات التي اخترتها لكثرة ارتياد مجتمعنا لها هي دراسة ثقافتنا على الأنستغرام وتويتر، حيث أردت التوصل إلى نتيجة معينة تعطيني إرشادات إلى أكثر الشخصيات التي يتفاعل معها السعوديون، وأكثر المواضيع التي يحبون التطرق والنشر عنها، وأكثر الأساليب المستخدمة في ذلك.
كانت النتيجة صادمة، فقد وجدت أننا مجتمع يغلب عليه السطحية الشديدة رغم توفر مقاعد التعليم والابتعاث والتدريب والخبرة. كان الغالبية يعانون من فقدان في الثقة بالنفس، حيث الكثير والكثير وجدتهم يحبون زيادة المتابعين، ويعمدون في ذلك إلى: إما شراء المتابعين، وإما نشر الإشاعات، وإما عمل التفاهات الغريبة التي تحصد المزيد من المتابعين. فقمت حينها قبل عامين وعلى الفور بشراء 80 ألف متابع على تويتر لأعرف كيف يتم تسطيح العقل العربي؟ فوجدت أن الكثير قد انخدع مباشرة بحسابي دون أن يعرفني من قبل، بل وطلب مني البعض نشر اسمه أو عمل دعاية له بسبب أنني مشهور على حد قوله. وقد استمر ذلك أسبوعين فقط قبل أن أطلب حذف جميع المتابعين. كان الأمر أشبه بحرب اجتماعية طاحنة لا يشوب معظمها العمق، بل كان الكثير والكثير يتفاعلون على موضوعات ذات قيمة سلبية غير مفيدة مطلقاً مثل: الحديث عن بقرة ظهرت في شوارع الحدود الشمالية، أو أسدٍ طليقٍ في حفر الباطن! أو أبٍ ضرب أبناءه. كانت إحصائيات تويتر حينها وإلى اليوم تشير إلى وجود مئات الآلاف من التغريدات وفي سرعات متناهية للحديث في مثل هذه الهاشتاقات الهشّة. كانت كلمة إشاعة فقط في عام 2015 قد تكررت حوالي تسعمائة ألف مرة في تغريدات السعوديين حسب إحصائية الإخوة بمؤسسة مسك الخيرية قبل أسابيع.
وفي الأنستغرام فقد جاءت المفاجأة الثانية بوجود ملايين المتابعين لشخصيات هشة أو وهمية أو سلبية ترتبط بجماهيرها عبر أساليب رخيصة أو مبتذلة أو غاية في الإسفاف. كانت بعض هذه الحسابات الزاخرة بمئات الآلاف من المتابعين واللايكات والشير تحمل إما صراحة وإما ضمنياً سباباً وتجريحاً للمتابعين أنفسهم الذين قد بلغوا مرحلة متأخرة في شدة ارتباطهم بهذه الحسابات رغم إساءاتها المتكررة.
وحملت المحصلة وجود عدد هائل من المجتمع غير قادر على التفريق بين دعاته وبين علمائه، فأصبحت حسابات وعاظنا تحمل الملايين من المتأثرين بخطابات رفع الصوت والتجييش والعزف على وتر عواطفهم، في الوقت الذي يرى هؤلاء المتابِعون أن هؤلاء الدعاة لا يحبون أن يتابعوا أحداً، فهم يُتبعون ولا يتبَعون.
كانت الشيلات والأناشيد - التي لا يوجد فرق بين بعضها وبين الأغاني سوى ختم قناة روتانا - تهيمن على الساحة الفنية والاجتماعية. وبدا الكثير يعيش مرحلة ازدواجية بين محاولة الجمع بين كسر المحافظة وأداء المحافظة في شخصية واحدة خلال 24 ساعة.
لقد عرفت اليوم أننا لن نسير في الطريق الصحيح إذا عملنا على كسب المزيد من الازدواجية، ولن نسير في الطريق الصحيح إذا سلمنا شارة العلم لوعاظنا وتجاهلنا هيئة كبار علمائنا، ولن نبدو أمة متقدمة وهاجس شبابنا هو ماذا قال أبو فلان على الأنستغرام، وماذا كان رد زيد على عبيد.
بنهاية المطاف: يجدر القول إن لدينا جوانب إيجابية كثر، أهمها: استقرارنا وسلامنا وديننا وقيادتنا، وقد قلت لأصدقائي كل شيء...