د. فهد بن علي العليان
لقد تحدث في ثنايا سيرته عن الأسرة - في ذلك الزمن - وتركيبتها، وقال كلاما جميلا ربما ينطبق على أسر هذه الأيام - بعيدا عن الاختلاف أو الاتفاق مع مضمونه - لكنه النسيج الأسري، إذ يقول: « وبعد، فما أكثر مافعل الزمان، لقد عشت حتى رأيت سلطة الآباء تنهار، وتحل محلها سلطة الأمهات والأبناء والبنات، وأصبح البيت برلماناً صغيراً، ولكنه برلمان غير منظم ولا عادل، فلا تؤخذ فيه الأصوات ولا تتحكم فيه الأغلبية، ولكن يتبادل فيه الاستبداد، فأحياناً تستبد الأم، وأحياناً تستبد البنت أو الابن، وقلما يستبد الأب، وكانت ميزانية البيت في يد صراف واحد فتلاعبت منها أيدي صرافين، وكثرت مطالب الحياة لكل فرد وتنوعت، ولم تجد رأياً واحداً يعدل بينها، ويوازن بين قيمتها، فتصادمت وتحاربت وتخاصمت، وكانت ضحيتها سعادة البيت وهدوءه وطمأنينته».
ومع رغبته في تعلم لغة أجنبية، يستطيع من خلالها القراءة في الكتب الأجنبية، قرر تعلم اللغة الإنجليزية، وهاهو يسرد حكايته مع معلمته، حين بذل مجهودا جبارا وكبيرا في تعلم اللغة الإنجليزية: «وتوثقت الصلة بيننا فكأنني كنت من أسرتها، وهي لا تعنى بي من ناحية اللغة الإنجليزية وآدابها فحسب، بل هي تشرف على سلوكي وأخلاقي. لاحظت فيَ عيبين كبيرين فعملت على إصلاحهما، ووضعت لي مبدأين تكررهما عليَ في كل مناسبة. رأتني شاباً في السابعة والعشرين أتحرك حركة الشيوخ، وأمشي في جلال ووقار، وأتزمت في حياتي، فلا موسيقى ولا تمثيل ولا شيئاً حتى من اللهو البريء، وأصرف حياتي بين دروس أحضرها ودروس ألقيها، ولغة أتعلمها. ورأتني مكتئب النفس منقبض الصدر ينطوي قلبي على حزن عميق، ورأتني لا أبتهج بالحياة ولا ينفتح صدري للسرور، فوضعت لي مبدأ هو : (تذكر أنك شاب) تقوله لي في كل مناسبة وتذكرني به من حين إلى حين. والثاني: أنها رأت لي عيناً مغمضة لا تلتفت إلى جمال زهرة ولا جمال صورة ولا جمال طبيعة ولا جمال انسجام وترتيب، فوضعت لي المبدأ الآخر: (يجب أن يكون لك عين فنية) فكنت إذا دخلت عليها في حجرتها وبدأت آخذ الدرس وأتكلم في موضوعه صاحت في: (ألم ترَ في الحجرة أزهاراً جميلة تلفت نظرك وإعجابك فتتحدث عنها؟). وكانت مغرمة بالأزهار تعنى بشرائها وتنسيقها كل حين، وتفرقها في أركان الحجرة وفي وسطها، ويؤلمها أشد الألم أن أدخل على هذه الأزهار فلا أحييها ولا أبدي إعجابي بها وإعجابي بفنها في تصفيفها. ويوماً آخر أدخل الحجرة فأتذكر الدرس الذي أخذته في غزل الزهور فأحيي وردها وبنفسجها وياسمينها وكل ما أحضرت من أزهار، فتلتفت إلي وتقول: (أليست لك عين فنية؟). أعجب من هذا الاستنكار، وقد حييت الأزهار، فتقول: ألم تلحظ شيئاً؟ فأجيل عيني في الحجرة فلا أرى شيئاً جديداً غير الزهر الجديد، فتقول: ألم تلحظ الحجرة وقد غير وضع أثاثها؟ لقد كان الكرسي هنا فصار هاهنا.. وكانت الأريكة هنا فصارت هاهنا، وتقول: قد سئمت الوضع القديم وتعبت عيناي من رؤيته، فغيرت وضعه لتستريح عيناي.. وهكذا».
إذا كان ماذكر حديثا عن همه وهمته في تعلم لغة أخرى، فإنه كذلك حديث عن الإحساس بالجمال الذي يغيب عنا في كثير من الأحايين فلا نراه، بل إننا نتجاوزه، فهل هو تأثير البيئة، أم هو التقليد والعادة التي تحرمنا من تذوق جمال المكان وما حولنا ؟! أظن ذلك، وأجزم به.
وعند الجمال أقف، وللحديث بقية.