تمثل مواقع الميديا وتداعياتها الثقافية والتقنية منعطفًا فعّالاً في انتشار الإبداع بأشكاله وتفعيله إنسانيًّا على مستوى التشكيل والرؤية، كما أوجدت تحدّيات كبيرة في آليات الإبداع والتلقي؛ فتحوّلت مراحل الانتظار الطويلة إلى لحظات معدودة؛ ليجد المبدع نتاجه الإبداعي أمام متلقيه بكل تدفقه ونبضه وفي لحظات ولادته الأولى دون تدخل رقيب خارجي يحذف منه ويبقي؛ إذ باتت هذه المواقع ضرورة ملحّة تتطلبها المرحلة، ورابطًا إيجابيًّا فاعلاً بين المبدع والمتلقي، فلا يلبث الأول أن يغرّد أو ينشر حتى يجد صدى تغريدته أو منشوره مباشرة بين المتابعين والمتصفحين إعجابًا ونقدًا وتساؤلاً وتعليقاً ومشاركة، وهذا من شأنه أن يسهم في إثراء العمل الإبداعي وتوجيهه إلى المسار الصحيح ما يعطي الفرصة للمتلقي أن يناقش مكامن النص بآلية مرنة تكشف عن وجهات النظر المختلفة، فتنتقل النصوص سريعًا من القوالب الجامدة إلى كائنات نابضة تنتعش بالاستنطاق والتفاعل الآني، إضافة إلى أن التلقي على هذه المواقع لم يعد محدودًا في النخبة المتخصصة؛ بل أصبح فضاءً مفتوحًا على الجميع، وللمعاينة قمت باستلال نصّ شعري من فضاء فيسبوك للوقوف على هذه الحركية التي تتم بفيض من التداول والتفاعل بين المتصفحين، وهذا النص الصوفي بعنوان «صحيفة الأقداس» للشاعر عبد الله ناجي أسوق هنا جزءًا منه:
أُقيمُ في العتمة البيضاء
منجدلاً في الطين
أُوْرِدُ أزماني .. ولا أرِدُ
لي نغمة البدء
موسيقى السماء هنا
كل المدارات من أرجائها تفدُ
سيبدأ المشهد الكونيُّ
وانطفأتْ أنوارُنا
وسراجُ الله يتقدُ
يفيض بي المشهد النوريّ
أَصعدُ لي إلى البهاء
لألقى كل من شهدوا
أُمددْ يديك إلى الإشراق
منعدمٌ هو الوجود
البرايا كلهن يدُ
أغيب في لجج الأنوار
تدفعني إلى الفناء
فيا لله ما أجدُ
هناك تنهتك الأستار
تشرق لي
شمس البدايات
يُلقي ما لديه غدُ
الآن تخطفني الأنوار
كن عدماً
لا الروح تدركني كلا
ولا الجسدُ
أصير لا شيء
في بهو الوجود
أنا .. لا شيءَ
تحبل بي الرؤيا , ولا تلدُ!
فأول ما يستوقف المتلقي في هذا النص هو المزج بين وسائط لغوية، والصورة المرافقة التي يقول الشاعر في الرد على التعليقات بأنه التقطها بنفسه من سماء مكة المكرمة مما يدل على وعيه التام بتجربته الشعرية وارتباطه بالمكان الروحاني، وقد حرص الشاعر على البدء بالمتن الشعري في أعلى المنشور ثم تأتي الصورة؛ فيبدأ المتلقي بالتعرف على مكوناتها، مرددًا نظره بينهما، مقارنًا بين تفاصيل الصورة وانعكاساتها الوصفية في النص الشعري ليكتسب تشكيل النص عمقاً وانفتاحاً دلالياً مستمرًا.
وتلا ذلك تعليقات القراء الذين تختلف رؤاهم تبعًا لاختلاف وجهات نظرهم، وميولهم، وتخصصاتهم، وسأعرض بعضًا مما سجله مرتادو صفحة الشاعر لنظهر مدى تفاعل القارئ مع هذا النص الشعري؛ فلو وقفنا على نص ناجي بعد قراءته وتمحص الصورة المرافقة تقع أنظارنا على عدد اللايكات التي تجاوزت 180 لايكا من متابعيه ملوحين بأنامل الدهشة والإعجاب والتماهي مع النص وتفاصيله، لننتقل بعدها إلى نهر متدفق من التعليقات التي تجاوزت 150 تعليقًا من شعراء ومثقفين وقراء عاديين ـ وليست العبرة بالكم ولكن بمقدار جودة النص وبهائه ـ فأحيانًا تكون التعليقات في اتجاه الإعجاب دون تعليق بشكل نقدي يقف على جانب الإبداع فيه، ويتم ذلك من خلال اقتباس بيت أو بيتين مسّت وجدان المتلقي فتفاعل معها القارئ شعوريًّا كتعليق الدكتور محمد المهري (لي نغمة البدء .. موسيقا السماء هنا ... كل المدارات من أرجائها تفد) مكتفيًا بقوله: لك الله من صوفي تعلّق برسم الوجود! بينما نجد الشاعر منصور سندي يعلق بانبهار مناديًا الشاعر للفت انتباهه ومعلقًا بقوله : روحانية تحيل الروح لفراشة تطوف حول ضياء العرش!
وقد أيده عدد من القراء بوضع أيقونة الإعجاب تأييدًا لما قال المعلّق، في حين أن مبدع النص لم يكن بمنأى عن المتلقي؛ بل كان طرفًا قويًّا في الحوار والنقاش والتفاعل الآني يرد على هذا أو ذاك بلغته الصوفية المتفردة، وأسلوبه الأنيق؛ فرد على المعلق سندي بقوله: عدت وكانت عودتك ألقاً وجمالاً وجئتك متأخراً، ولكن تحملني نشوة روحية!
كما نجد بعض المعلقين يعدد مرات قراءة النص غير مكتفٍ بقراءته الأولى كما فعل الشاعر إبراهيم مبارك حينما زار المتصفح في الزيارة الأولى فقال: ناجي شاعر كبير أقول هذه الكلمة وأتحمل مسؤوليتها كاملة.
وفي الزيارة الثانية يقول الشاعر إبراهيم مبارك: لا أدري إن كنت كتبت تعليقي، ولكني أعود للمرة الثانية وأقرؤها للمرة السابعة وأكثر.. كم أنت جميل يا صديقي هذه ليست شهادتي وحدي
بينما الروائي محمود تراوري علق بعبارة جاهزة من محفوظه (إن من الشعر لسحرًا) إشارة إلى ما فعلته اللغة الصوفية وهذا المعراج الروحاني في نفسه من سحرعند تلقي النص.
أما الشاعر حسن القرني فأطال البكاء على أعتاب هذا النص معلقًا بقوله:
هذا عميق!
صوفي حد اللاصوفية نفسها
أنت يحتاجك الدارس اللامنتهٍ ليصل مداك
وسيفشل بلا ريب
أنت الشعر المتغلغل في عمق الطريقة التي لم يخترعها المنقطعون إلى الله
أنت الشعر الذي لن يدركه الناس
فابحث عن الغيب ودلّه علينا ليشرحك
فقد عجزنا رغم بكائنا على أعتاب هذا النص
أين عقولنا، دلونا عليها يا ملائكة الله!
ومن القراء الذين تناولوا النص من زاوية نفسية قول المعلّق بكر عبد الله: الله الله الله ! والشاعرة بدور سعيد تقول: رونق مقدس ما قرأته لك نزل كغيث بساحة الروح فاخضرت بنقاء! وتعليق حمد الكنتي: أنت عميق وساحر.
هذا التفاعل القوي يشير أن مواقع الميديا أخرجت الإبداع بصفة عامة من حيّز المنابر المحدودة إلى منابر التواصل الرحبة باعتبار أن النشر على هذه المواقع بات مطلبًا حضاريًّا وليس موضة عابرة كونها أتاحت قدرً كبيرًا من الحرية للمبدع والمتلقي معًا للتعبيرعن آرائهم، والقدرة على الحوار والنقاش والتعاطي مع كل جديد، وإن كانت لا تسلم ـ أحيانًا ـ من الإخوانيات والمجاملات، ومن الرؤية الانفعالية التي تصدر مع النص لأول وهلة.
مستورة العرابي - ناقدة وأكاديمية - الطائف