الجبيل - عيسى الخاطر:
أجمع رجال دين وقانونيون وإعلاميون على أن ارتفاع أرقام الديات التي تصل إلى عشرات الملايين أضحى مهدداً خطيراً للمجتمع، مؤكدين على أن ذلك مخالف للشرع، ووصفوه بـ « تجارة الدم» التي قتلت روح التسامح، مطالبين بتدخل أهل الحل والعقد لتحديد سقف للديات، كاشفين عن وجود وساطات بين بعض أصحاب الدم وأهل القاتل لرفع الدية من أجل أخذ حصة قد تصل إلى عشرات الملايين.
واعتبر ضيوف «الجزيرة» في هذا التحقيق أن المتاجرة بالدم عمل يخرج العفو من سياقه، ويفرغه من معانيه الإنسانية مشيرين إلى أن القصاص ربما كان لدى البعض أهون من جمع الدية التي تزيد في بعض الأحيان عن 40 مليون ريال، وفي جمعها قد يتعرض أهل القاتل لأصناف من المذلة، فضلاً عن إساءة سمعة المملكة ومواطنيها.
تحدث مدير إدارة الأوقاف والمساجد والدعوة والإرشاد في محافظة الجبيل الشيخ أحمد بن محمد الجراح، عن المبالغة في الديات، مستذكرا ما منّ الله تعالى علينا بهذا الدين الحنيف الذي ضمنه ما يكفل سعادة الإنسان في الدارين إن هو تمثل تعاليم الإسلام منهجا وسلوكا ومن الجوانب المهمة التي رعاها الإسلام قضايا الحقوق بشتى أنواعها، ومنها حق الورثة في الدية.
واستشهد الشيخ الجراح بقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا)، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن الإسلام حث على الصفح والعفو ورغب فيه، كما ورد في قوله تعالى: (ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) وقوله: (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان)، وكذلك قوله تعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله).
متاجرة ومفاخرة
وعن قيمة الدية ذكر الشيخ الجراح أنها كانت تقدر سابقاً بعدد من الإبل وتم تقدير ما يعادلها في عام 1390هـ 24 ألف ريال بالنسبة للخطأ و27 ألف ريال للعمد وشبه العمد، ويكمل الجراح حديثه: بعد ذلك كتب سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى عدة محاكم في مناطق المملكة يطلب تكليف اثنين أو ثلاثة من أهل الخبرة والأمانة بالتعرف على القيمة المتوسطة للأنواع الواجبة في الدية من الإبل ونظرا لاختلاف التقديرات الواردة من المحاكم فقد قرر المجلس بأغلبية الحاضرين من أعضائه الأخذ بأقلها تقديرا.
ويضيف الشيخ الجراح: «أنك لتعجب أشد العجب من الواقع المعاصر الذي نعيش فيه وكيف أن التنازل أصبح مجالا للمتاجرة والمفاخرة، وأصبحت الدية أو ما يدفع لأولياء الدم يصل إلى عشرات الملايين ناسين ومتناسين ما قرر الشرع المطهر من الترغيب في العفو لوجه الله تعالى والتنصيص على الأخوة الإيمانية في هذا الموضوع، متناسين قوله تعالى: (فمن عفي له من أخيه).
التزام الشرع
وطلب الشيخ الجراح بضرورة الالتزام بالشرع وأن كان لابد من ذلك، والنظر هنا إلى ما يصاحب ذلك من جلسات ومخيمات ولقاءات وما يجري فيها من مفاخرة، والتي تختم بقول أحدهم: «عفوت لوجه الله»، لكن لنحترز حتى لا تعمينا هذه الظاهرة عن النماذج المشرفة فهناك من يعفو لوجه الله بل يطلب بضرورة تسريع إنهاء إجراءات الجاني.
وألح الشيخ الجراح على أهل الحل والعقد في هذه البلاد إلى إيجاد حل لمثل تلك القضايا التي أصبحت تسيء إلى سمعه المملكة وإلى سمعة مواطنيها لما تبرزه من جشع وطمع وحب للذات.
مزايدة واستغلال
وفيما يتعلق بالجانب القانوني يرى المحامي سلمان عايض العمري، وجوب التفرقة بين الدية الشرعية المقررة في القتل الخطأ وفي القتل العمد في حال سقوط القصاص، وما يقوم به بعض أهل الدم الورثة من وضع شروط ومبالغ طائلة ومزايدات على دماء مورثيهم ضرباً من المتاجرة والاستغلال لمال أهل القاتل، وهذا يختلف عن الدية المقررة.
وقال العمري : «أكاد اجزم هنا أن هذه الظاهرة سعودية مئة في المائة، كما أنه لا يوجد نظام أو قانون يحد منها، حيث تخضع المطالبة للمزايدات والوضع الاجتماعي والأسري والقبلي للقاتل».
زرع للضغينة
وذكر العمري في حديثه لـ«الجزيرة»: أن خادم الحرمين الشريفين سبق وأن دعا في سياق الحد من تفاقم هذه الظاهرة بألا تتجاوز المبالغ المطلوبة في مثل هذه الحالات الـ 500 ألف ريال، لكن للأسف لا يمكن الحد من هذه الظاهرة إلا بالوعي بمفاهيم السماحة والتسامح والصفح وإشاعة روح المحبة والتعاون بين أفراد المجتمع، وهذه قيم حثنا عليها ديننا الإسلامي الحنيف، إلا أن المبالغة في هذه الطلبات تنفير وزرع للضغينة والكره في القلوب.
حق مشترك
وبين المحامي العمري أن القصاص حق لجميع الورثة من الرجال والنساء والصغار والكبار فمن عفا منهم صح عفوه وسقط القصاص ولم يبق لأحد عليه سبيل لأنه حق مشترك لا يتجزأ، يضيف العمري: تكمن المشكلة في أن بعض الورثة يسقط حقه مقابل مبالغ طائلة يستأثر بها وحده دون باقي الورثة كما يحصل على نصيبه من الدية، وهذا فيه زرع للشقاق والفتنة بين الورثة، حيث يتنازل بعضهم دون علم الآخرين فتحدث المفاجأة في المحاكم بتنازلهم عن حقهم في القصاص، مما يثير بينهم خلافات لا تنتهي.
عفو ومتاجرة
من الجانب الاقتصادي كان لنا حديث مع المحلل الاقتصادي فضل البوعينين، الذي بدأ بالقول: «لنعترف أن هناك الكثير من أهل الدماء يتنازلون عن الجناة رغبة فيما عند الله من خير ذلك أن العفو من أعلى درجات الإحسان إلى الناس، إلا أن هناك فارق كبير بين العفو لوجه الله وبين المتاجرة بالدماء».
وتابع: «إن العفو من الأعمال التي يحبها الله سبحانه وتعالى ويحث عليها، (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، وقد رغب الله سبحانه وتعالى بالعفو، وجعله سببا لعفوه ومغفرته فقال جل من قال: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
كرم العفو
ويضيف البوعينين «إن هناك أيضا فارق كبير بين المتاجرة بالدماء، وأخذ العوض غير المشروط، فالعفو يعني التنازل عن القاتل لوجه الله سبحانه وتعالى دون اشتراطات مالية وبذلك يحتسب العافي عن الناس أجره على الله سبحانه وتعالى وهذا هو العفو الذي حث عليه الشرع الحنيف، ولا مانع من أن يأخذ العافي عوضا من أهل القاتل، ففي العوض تطييب لخاطر ورثة القتيل، وفيه إصلاح لحال الورثة خاصة إذا ما كانوا أطفالا قاصرين، أو فقراء لا يجدون المعيل بعد قتل ولي أمرهم».
وأعتبر البوعينين أن المتاجرة بالدم هي عمل يخرج العفو من سياقه، ويفرغه من معانيه الإنسانية فالقصاص ربما كان لدى البعض أهون من جمع الدية التي تزيد في بعض الأحيان عن 40 مليون ريال، وفي جمعها قد يتعرض أهل القاتل لأصناف المذلة، فلا يتوافق ذلك مع كرم العفو ومعانيه الخيرة.
وكشف البوعينين عن وجود من يستغل الدماء للتكسب وإن لم يكن من أولياء الدم، وقد ظهر أخيرا وسطاء يسعون في رفع الديات بغرض المشاركة فيها، في الوقت الذي يسعى فيه أهل الخير والصلاح والبذل والعطاء إلى تحقيق العفو تقربا إلى الله سبحانه وتعالى، وربما بذلوا من أموالهم من أجل عتق الجاني، وبذلك تختلف طبائع البشر، وأهدافهم في قضايا الدم والعتق.
بيع الدم
وعبر الكاتب والمحلل الاقتصادي عن أسفه الشديد تجاه تحول بعض العفو في السنوات الأخيرة إلى متاجرة بالدماء، بعد أن كان خصلة من خصال المحسنين والكرماء النبلاء.
وقال: «من حق أهل القتيل المطالبة بالقصاص، ومن حقهم التنازل، إلا أن التنازل عن القصاص مقابل مبالغ خيالية يعتبر بيعا للدم، لا عفوا، وهذا أمر يجب أن يتنبه له المجتمع».
وأشار إلى أن البعض ربما كانوا قادرين على توفير الدية المشروطة، إلا أن كثير من الناس لا يستطيعون ذلك، ومن هنا فيجب أن يكون هناك تقنين لعمليات العفو وفق نوع القضية، وأن تحدد الديات، وأن لا يسمح بالمبالغة فيها أو استغلال العفو للتكسب.
سقف الدية
ويرى البوعينين أن تحديد سقف أعلى للدية بات ضرورة ملحة ومطلبا لا يمكن تجاهله تحت أي مسبب، مطالبا الجهات المسئولة بسن قانون يحدد السقف الأعلى لدية العفو اعتمادا على رؤية الخبراء وأهل العلم لوقف عمليات المتاجرة بالدماء التي لا تحقق مطلب القصاص ولا معاني العفو الحقيقية.
مكسب ودخل
من جهته تحدث الإعلامي مفلح السبيعي أن الدية أصبحت مكسباً ودخلاً جيداً لبعض أولياء الدم الذي وصف بعضهم بـ«الجشعين» وبدون مراعاة لظروف الآخرين مستغلين هذا الظرف وحاجة ذوي القتيل في السعي وبذل ما في يدهم لعتق رقبة ابنهم الأمر الذي يجعل أهل القاتل في حيرة وقلق حيث يكلفهم هذا الكثير من العناء وخصوصا إذا ما كان المبلغ المطلوب خيالياً ويفوق التصور ومن الصعب توفيره في ظل عدم وجود حد متعارف عليه عرفا لأن حتى في هذا الظرف تحايل. ودعا السبيعي أن يكون هناك حل لتلك المشكلة التي تفاقمت وأصبحت شبه ظاهرة بحيث تتدخل الجهات المسئولة لوضع حد للدية غير الشرعية على أن لا يسمح بتجاوزها.