لقمان سيف الرحمن الدهلوي
ليس بعيداً عمَّا سبق ذكره في المقال السابق ماجستير المعهد العالي للقضاء في برنامجه المسمى «السياسية الشرعية»، وأبعد منه «الفقه المقارن»، فقد قيل فيه وأطنب حتى لم يعد من مجال لإعادة ما ذكر، وبقي المعهد صامداً تحت مظلة جامعة الإمام وشديد الصلة بالهيمنة الشرعية فيه، وكل ما يمكن تلخيصه أن المعاهد التي تعنى بتهيئة كوادر القضاء إلى جانب ما سبق ذكره من ضرورة تشبع الدراسة فيها بالمعارف القانونية من مصادرها الأصيلة، فمن الضروري كونها بعيدة عن هيمنة المؤسسات الأكاديمية لتنظيرها ويجب أن تخضع لجهات ذي طبيعة مهنية وصقل عملي وممارسة تطبيقية ومحاكاة واقعية.
أما برنامج دراسات الأنظمة بمعهد الإدارة العامة، فبطرح فكرة عجلة عن هذا البرنامج والذي حظيت بالقبول فيه، فكان القبول فيه إنجازاً أعظم من التخرج منه، أساس البرنامج كما أخبرني به من أثق في نقله ولا أعرف عمن نقل أنها من ثمرات إبداع أساطين الفكر الإداري السعودي، وهم غازي القصيبي ومطلب النفسية ومحمد الطويل، فقد اقترحوا هذا البرنامج لخريجي الشريعة منذ ما يقارب من أربعين سنة مضت حتى قبل أن تشكل كليات الأنظمة لدينا، استنساخاً من التجربة الأمريكية في دراسة القانون، يعزى الفكر الأمريكي الحديث على اعتبار أن القانون JD وإدارة الأعمال MBA والطب MD ليست علوماً بل مهن يجب أن تدرس على هذا الأساس، ولذلك فإن هذه الدراسات يجب أن تمنح ما بعد الدراسة الجامعية، وبطريقة وأسلوب يختلف عن التعليم الأكاديمي، فلا يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم درجة بكلوريس في القانون كما كان قبل مائة عام، وأول درجة يمكن الحصول عليها في دراسة القانون يعرف بـJuris Doctor وأول من ابتكرها هو Christopher Langdell المتوفى سنة 1906م أحد أساتذة هارفرد، الجامعة نفسها التي ابتدعت الـMBA في ستينات القرن الماضي، يتم القبول في هذه الدراسة بعد حصول الطالب على درجة بكلوريس في أي علم مثل المالية أو الاقتصاد مثلاً ثم يلتحق لمدة ثلاث سنوات لدراسة تخصصية في القانون ليصبح متخصصاً في القانون المالي، وتقوم على أساس التحليل والمنطق الجدلي ومعالجة القضايا التطبيقية Case Method، عندما استنسخت الفكرة وتبنتها معهد الإدارة العامة بإنشاء برنامج دراسات الأنظمة ليكون دراسة قانونية بعد الجامعة، كان للحاجة الملحة لأجهزة الدولة لقانونيين، فقد اقتصرت الرؤية حينها بكفاية سنتين بدل ثلاث سنوات كما هو الحال في الـJD لعدم الحاجة للإطالة، وكان اقتصار خريجي الشريعة حينها للبرنامج تعد رؤية ثاقبة أخرى لكي لا يظهر بين قرارات الأجهزة الحكومية وبين ثقافة المجتمع ورواسخه شرخاً واضطراباً وإن توسع في القبول أحياناً من التخصصات الأخرى في أضيق الحدود. ومن جهة أخرى ظل البرنامج هو الوحيد الذي يمنح تلك الدرجة مع محدودية في عدد المقبولين فيه، فكانت رؤية ثالثة موفقة وبعيدة عن ملئ الخزان الشحيح بصهاريج متعددة، وأخيراً خضوع البرنامج لمعهد ذي طبيعة مهنية وهو معقل التدريب والتهيئة والتأهيل الإداري للبيروقراطية الحكومية. واليوم وبعد أن مضى الأولون، فإني أودطرح اقتراحين على القائمين على البرنامج بمعهد الإدارة العامة إعادة النظر في قبول خريجي دراسات أخرى مثل المالية والاقتصاد مناصفة في عدد المقاعد مع خريجي الشريعة على أقل تقدير، وذلك بسبب ما استجد من تعدد أجهزة الدولة المالية وحاجتها الملحة لمن يحمل المعرفة المالية والاقتصادية ويعززها بتعميق المعرفة القانونية ليأخذوا دورهم في الأجهزة الرقابية والإشراقية المالية والاقتصادية في الدولة، فقد لوحظ معاناة وقصور في هذا الجانب لعدم الإلمام بالجوانب المالية للقانونيين وحاجتهم دوماً للخبرة المالية. وبالنسبة للبرامج المنشأة بالجامعات بعد الشريعة سواء بقيت على وضعها الحالي كبرامج ماجستير أو عدلت هيكلتها في دبلومين كما اقترحت في المقال السابق فإن الواجب إعادة النظر في المناهج ولو بالاستعانة بخبرة برنامج الأنظمة بمعهد الإدارة العامة، وإعادة النظر في مدى خضوعها لرئاسة مستقلة عن كليات الشريعة حتى يتم منح القانون حقه من الإشباع العلمي والمعرفي لا مجرد التطعيم والتهجين بمذكرات مجتزئة المحتوى.
من بين روافد التعليم العالي لدينا الابتعاث إلى فرنسا أو أنظمة شبيهة بها، فحاملو درجة القانون منها لهم أثر إيجابي بلا أدنى شك، ويتم إعادة استقطابهم بسبب قلة خريجيها لملئ الحاجة الماسة إلى الكوادر الوطنية في الحقل الأكاديمي الجامعي أو التدريبي أو في الاستشارات، وبالنسبة لدول أخرى كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ومن نهج نهجهما من النظام الإنجلوساكسوني، فإنهم عادة يحملون درجة تسمى LLM وتعني ماجستير في القانون، وهي درجة في الواقع تمنح في تلك الدول لطلبة الأجانب، فهو برنامج دولي مواز للبرنامج المحلي أسس في جامعات تهدف استقطاب الطلبة من دول العالم ومدته سنة واحدة، وهو برنامج نفعي بالمقام الأول، لا يمكن المقارنة بينه وبين حامل درجة الـJD الأمريكية، ولكن على أي حال فهو قد اكتسب لغة واكتسب معها المصطلحات القانونية الرديفة مع اطلاع جيد لبعض من القوانين الدولية المعنية بعقود التجارة الدولية وما أشبه، ثم على قدر جدية الجامعة المانحة والمواد التي وقع اختياره عليها وهي في العادة لا تتجاوز الأربع مواد والاجتهاد الشخصي ليعود وقد قضى بضع سنوات جامعاً بين اللغة والدرجة أوقاتاً ممتعة لا تنسى في حدائق كليفورنيا.
أخيراً هناك برنامجا ماجستير العدالة الجنائية بجامعة نايف للعلوم الأمنية ويعد بعد موقعها في أقصى شرق الرياض بالإضافة إلى الطبيعة الأمنية لدراساتها إلا أنها بالمقابل تمكنت من اختطاف الاعتراف ببرامجها من وزارة التعليم ما لم يتمكن أو يرغب به معهد الإدارة العامة بالنسبة لدراسات الأنظمة بحجة لها وجاهتها لعدم وجود مجلس علمي جامعي بها مانحاً للدرجة العلمية مما جعل برنامج العدلة الجنائية محل إقبال من جانب وعزوف من آخر، والبرنامج الآخر دبلوم الدراسات الدبلوماسية بالمعهد الدبلوماسي ويدخل ضمن حقوله إلى جانب العلاقات الدولية القانون الدولي، وهو فرع أساسي ومستقل في القانون ولكنه يختلف بشكل جذري عنه حين الإطلاق، لأن أشخاصه هنا هي الدول والمنظمات الدولية لا الأفراد والمنظمات القائمة على الأفراد، وقد ظلت الدراسة فيه بمنأى عن الخلط والتشعب، أنشأته وزارة الخارجية لملئ حاجة كوادرها من المشتغلين بالسلك الدبلوماسي، فمن الحري والأولى أن تحذو وزارة العدل الخطوة نفسها لملئ حاجة كوادرها من المشتغلين بالسلك القضائي، وذلك إما بإنشاء معهد متخصص تحت مظلتها أو بالتنسيق مع معهد الإدارة لإنشاء برنامجٍ أسوةً ببرنامج هيئة التحقيق والادعاء العام، على أن يكون بالتعاون مع كل من المجلس الأعلى للقضاء ومجلس القضاء الإداري تمنح درجة مهنية تخصصية ومتشعبةً للقضاة حديثي التعيين تكون الدراسة فيه سنتان تخصصان للدراسات القانونية العامة وسنة ثالثة تحددها المسارات التخصصية، يتخصص فيه الدارس بحسب فرع القضاء الذي سيمارسه سواء شرعي (العام والجنائي) فيكون فيه التكثيف على المراجع الشرعية أو سواها من التخصصات الإدارية أو التجارية أو العمالية ليكون التركيز على المناهج القانونية المتخصصة، وأتصور أن هذا هو الحل للرقي بالعمل القضائي من جهة وحل لتعدد اللجان القضائية التي طال الحديث عنها ونالها من النقد من جهة أخرى، وأي مقترح بضم اللجان المتعددة إلى القضاء قبل حصول القضاة من خريجي الشريعة على التأهيل المناسب لطبيعة الدعوى التخصصية للجان يعد عبثاً وضياعاً للحقوق بسبب طبيعتها التي يصعب استيعاب تفاصيلها وهي لا تختص بمسألة محددة يمكن طلب الخبرة بشأنها، فهناك لجان مالية وأخرى تقنية وبراءات اختراع وغيرها كثير، ولذلك فإن الجهة التي تحدد المناهج ومتطلب تأهيل القضاة المتخصصين هي وزارة العدل والمجالس العليا للقضاء بالإضافة إلى الاسترشابالجهات الحكومية المعنية أعمالها بنظر تلك اللجان.