فاطمة العتيبي
السخرية علمياً هي وسيلة دفاع تبعث بها غريزتان هما النفور والاشمئزاز وتعمل النفس البشرية على الدفاع عن تراكم هذه المشاعر المؤذية داخلها فتحيلها وبطريقة سلمية إلى سخرية بدلا من الممارسة البدائية للانفعالات الغاضبة.
وتبلغ السخرية نضجها حين ترتقي عن الشخصنة الشكلية (الاستهزاء الشكلي) لتكون سخرية لاذعة تتمكن بذكاء من اصطياد المفارقات السلوكية والفكرية ويظهر فيها مزيج من القدرة على البلاغة اللفظية والمخزون الثقافي المتنوع موروثا أو نظريات علمية أو أدب وفنون، وكلنا يعرف برنارد شو وسخريته الفنية الإبداعية. والذي بلغ نضجه الفكري أن رفض جائزة نوبل وقال قولته الشهيرة «إن هذا طوق نجاة يلقى به إلى رجل وصل فعلا إلى بر الأمان، ولم يعد عليه من خطر» .
ومن نماذج سخريته: كان على خلاف فكري دائم مع تشرشل وحين جاء موعد عرض مسرحيته الساخرة التي كتبها وأخرجها بنفسه أرسل له - بطاقتي دعوة وقد أرفقهما ببطاقة كُتب فيها: «لقد أرسلت لك بطاقتين كي تحضر العرض مع صديق... إن كان عندك صديق!». وإذ فهم تشرشل مغزى هذه العبارة، رد البطاقتين إلى شو مع بطاقة كُتب فيها: «آسف لأنني لن أتمكن من حضور العرض الافتتاحي. آمل بأن تُرسل لي بطاقتين للعرض الثاني، إن كان هناك عرض ثان».
وعادة يشعر الساخر بالاسترواح النفسي بعد إلقاء حمولته من المشاعر الغاضبة تجاه ممارسات وسلوكيات تستثير الغضب، ولذا فالمجتمعات تتعافى مع انتشار السخرية الناقدة التي تعمل على التطهر أولا بأول من العيوب الثقافية، والفكرية مثل التناقضات، والازدواجية وانتشار الوصولية والمظاهر الكاذبة وغيرها!
وليس المقصود هو الاستهزاء والتهكم العبثي بالأجساد والعيوب وهو مخالف للقيم والأديان السماوية. وقد اتخذ هذا النوع البدائي وسيلة لجذب صغار الشباب إلى المخيمات الصيفية فقد كانت برامجها وأنشطتها تقوم على (الاستهبال) لا غير وتذكروا عملة (نصف ريال) المعدني الذي يوضع على الجبهة ومن يتمكن من إسقاطه في فمه يفوز بمجموعة أشرطة من المحاضرات النادرة لأحد مشاهيرهم..!
المجتمع الساخر من الممارسات والسلوكيات المنبوذة أو غير المستحبة يطور نفسه سريعا فالمفارقات الضاحكة ترسل رسائل مختصرة وقادرة على لفت نظر الناس لأمر ما أكثر بكثير من الخطب والمحاضرات.
حين نصف نفاق أحدهم وتقربه من رؤسائه وفتحه الأبواب لهم والتخضع لبلوغ أهدافه التي هو غير جدير بها، بأن هذا يسير على نهج الجربوع في إيجاده لنفسه (نطاقتين) أي مخرجين فهو يخرج من هنا ويدخل من هنا ليس على سبيل المخرج عند الطوارئ فذاك معلن وكل يعرفه لكن الجربوع عادة له مخرج سري كنّا ونحن صغارا نبحث عنه أولا لنستقبل «الجريبيع» ونصطاده، هذا التوصيف يجعل السامع باختصار يتبادر لذهنه صفات كثيرة منبوذة القدرة على التملص، الجبن، السرعة في التنقل، والتخضع والانحناء، وكلها صفات منافية للشخصية الآهلة المتمكنة القادرة على تحمل مسئولياتها كاملة ومواجهة مشكلات الناس وحلها بدلا من التملص والهروب منها.