رمضان جريدي العنزي
منظومات القيم الجميلة هي التي تحكم المسار التقدمي للمجتمع، وتمنحه القدرة الكبيرة على خلق واقع أفضل يمهّد لمستقبل لائق، ومن غير قيم التقدم وحضورها والاستناد إليها، لا يمكن أن يخطو المجتمع خطوة واحدة إلى الأمام، لهذا بدأت المجتمعات المتطورة سعيها نحو التطور بالحفاظ على هذه القيم وتنميتها وتكريسها في أنشطة المجتمع بالمجالات كافة، فضمنت انتقالات نوعية نحو التقدم، وأمستْ تعيش حياة أكثر رفاهية واستقراراً وتقدماً من سواها، عكس المجتمع الخامل الكسول المتواكل الذي تغيب عنه قيم التقدم والتطلع، فيصبح فراغ غيابها مساحة سهلة ومتاحة لقيم التخلف والانحراف والنكوص، حيث تنمو سلوكيات وأفكار قاصرة منحرفة، تدمّر كل مقومات التطور والنمو والاستقرار للمجتمع.
إن الخطر الذي يخلفه ضعف أو تراجع قيم التقدم وعلو الهمم، لا ينحصر فقط بالثبات على واقع الحال الذي يعيشه المجتمع المتخلف، بل سوف تتسيد مكونات المجتمع انحرافات كبيرة وغريبة، تمهد للانحلال والتفسخ وانتشار اللهو المعطِّل للطاقات البشرية كافة، مع ترويج أدوات ووسائل ومواد الخمول والكسل والتثبيط، من بين قيم الفساد التي تحتل مساحة قيم التقدم - التزلف - وهي صفة تلتصق بضعاف النفوس والإرادات والهمم، أولئك الذين يسلكون أقصر الطرق وأيسرها إلى أهدافهم التي تنحصر بالمادة والمنفعة اللامشروعة، ولا أعني بالتزلف هنا حسن الذوق والكلام والكياسة في السلوك والمجاملات الصادقة، لكنني أعني التزلف الكاذب الذي ينتمي إلى حالة التزلف والتملق والنفاق المرضي، وتحوّل الإنسان من كونه ذاتاً عاقلة متوازنة محترمة، إلى شخصية زائفة متزلفة منفعية تلهث وراء منافعها المادية بأسلوب ينتمي إلى عدمية الصدق والبهت، وليس له علاقة بواقع الحقيقة نفسها، ولا بالأواصر والقيم الإنسانية التي تربط بين أفراد وجماعات المجتمع الواحد.
إن المتزلفين أنانيون يحاولون كسب كل شيء على حساب درجة الإتقان والإنتاج، أو لمحاصرة الكفاءات وطردها خارج حيز الفعل والإنتاج بسبب مواهبها وقدراتها وتفوقها على المتزلفين، الذين يكونون في الغالب بلا علم، ولا موهبة، ولا إبداع في التفكير أو العمل، والمشكلة الأكبر والأشد خطراً، حين يكون الشخص المتزلف إليه ضعيفاً أمام لغة وطريقة التزلف، فيقبل به، ويتحد معه، وينتشي طرباً له، رغبة منه في إشباع ذاته القاصرة، إن الشخص الذي يقبل التزلف ويشجعه ويهواه ويرضى به هو في حقيقة الأمر مريض أيضاً مثل المتزلف، لهذا سيُبتلى المجتمع بالمريض المتزلف، والمريض القابل بهذا التزلف، والمريض المشجع له، وكلهم يشكلون عبئاً كبيراً على مكونات المجتمع كافة، بل يشكلون حجر عثرة في طريق التقدم إلى الإمام، وبدلاً من التقدم نحو الفضاء والتمدد والاستطالة، سنرى التراجع والتلكؤ يعتري الناس والأشياء، ويجعلها قاصرة وعاجزة عن أداء وظائفها المطلوبة لخدمة المجتمع ونموه، وهكذا سيشكل حضور الظواهر السيئة، وغياب قيم التقدم، شرخاً كبيراً في بناء الوعي المجتمعي.
إن الأخطر في هذا المجال تحوّل الظواهر المنحرفة مثل (التزلف)، (الاختلاس)، (الرشوة)، (الكذب)، (التزييف)، (التزوير)، (المدح الكاذب)، (الإشاعة)، (الهياط) وما شابه، إلى حالات متداوَلة ومقبولة، لا يعترض عليها المجتمع، بل يحسبها بعضهم نوعاً من (الشطارة) و(الفهلوة) و(الذكاء المغاير) لضمان الحاضر والمستقبل، في ظل تراجع خطير لقيم التقدم، بل للقيم الإنسانية جمعاء، لذا مطلوب في هذه المرحلة تعزيز قيم التقدم، وقيم وثقافة العمل الخالص، ومحاربة قيم الانحراف، وسلوكيات الخطأ بكل الوسائل المتاحة، على أن لا ينحصر هذا الجهد الأخلاقي القيَمي الكبير في المسعى الخاص، بل ينبغي أن يشترك الجميع دون استثناء، العائلة والمدرسة والدائرة والمسجد والسوق والجامعة، يشترك الجميع في تقديم ما يكفي من الجهود، لإعادة قيم التقدم إلى الصدارة في قيادة المجتمع، لكي ينمو بكل شفافية وبياض ومثل عليا، بعيداً عن ازدواجية المعايير، وازدواجية القيم، وازدواجية العمل، وازدواجية المعاملة، والسلوكيات الخاطئة.