د.خالد بن صالح المنيف
لا قضية تشغل البشر كقضية الرزق ومطاردته والتنقيب عن منابعه والتفتيش عن مناجمه؛ فالبشر يستيقظون بالرزق، وقلوبهم معلقة بالرزق، وعقولهم منشغلة بهمّ تحصيله، فإن تمنوا تقدم الرزق على الأمنيات وإن دعوا ربهم سبق الرزق كل شيء! فلا يهنأ لهم عيش ولا يطيب لهم منام لأن الرزق والتفكير فيه قد جثم على صدورهم وأسرهم!
والسؤال ماهو الرزق الذي يطلبه البشر وينشده الناس؟
إن الرزق الذي ينشده البشر في الجملة لا يتجاوز المال والعقار وكل ما يدخل الجيب!
فصاحب الرزق من لديه مال جم... ويسار وافر!
وعليه يحكم على من كان صاحب حاجة مادية أنه حرم الرزق!
وهذا الفهم لاشك تنكب عن الدرب في فهم الرزق!
قال ابن منظور في لسان العرب: الرزق هو ما تقوم به حياة كل كائن حي مادي كان أو معنوي!
إذن مفهوم الرزق أوسع بكثير من أن يختزل في رصيد أو عقار أو سيارة أو ممتلك مادي!
وقد ذهل الكثير عما رزقهم الله تعالى من أرزاق معنوية ظنا منهم أن الرزق فقط في المال!
فظنوا أن الله حرمهم الرزق ومنحه لآخرين، والرزق قد غمرهم من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم!
تساءل ذات يوم إيليا أبو ماضي وقال: كم هي مساحة دنياك؟
وأقول: الكون سيكون لنا وطن إذا اتسع الفهم وتمدد الإدراك!
ويجب أن يشمل هذا الاتساع مفاهيم كثيرة ومنها المفهوم الحقيقي للرزق!
سأكشف لك الغطاء وأسفر اللثام وأجلي لك مفهوم الرزق فخذ مني:
* رزق أن يكون لك وطنا آمنا وغيرك قد أنهكته الحروب!
* رزق أن تكون قانعا راضيا وغيرك يمد النظر ويرسل الطرف مقارنا فلم يكن له من هذا إلا الحسرات!
* رزق أن توفق للصلاة والصيام وغيرك يتهيأ ليكون حطبا لجهنم!
* رزق أن تحسن الظن بالله وأن تملك أملا مشرقا وتفاؤلا مزهرا وغيرك قد ضرب اليأس أطنابه في روحه!
* رزق أن تنعم بالأمن وغيرك ينام ليله خائفا يترقب!
* رزق أن تدر لك الدنيا بحلاوتها وغيرك لاتفتأ تقرصه الليالي بأظفارها!
* رزق أن يكون لك جار كريم وآخرون قد ابتلوا بجيران لا أخلاق لهم!
* رزق أن يكون لك أبناء وغيرك ينشد الإنجاب ولو افتدى الأمر بماله كله!
* رزق أن يعينك الله على الصدقة والبذل وغيرك شحيح ممسك!
* رزق أن تمر على الروض فتستمتع بمنظره وبالورد فتستنشق شذاه وغيرك يعادي الجمال!
* رزق أن تجد حضنا تدفن فيه همك وتختبئ فيه عند الأزمات وغيرك قد تربص به الأعداء من كل جانب!
* رزق أن تذكر بالخير ويدعو لك من حولك وغيرك لا يذكر إلا بالشر!
* رزق أن تملك سيارة وغيره أضناه البحث يوميا عمن ينقله!
* رزق أن تنام في غرفة وثيرة لا شمس ولا مطر ولاريح ..وغيرك بين زلازل مدمرة وأعاصير قاتلة وفيضانات مغرقة!
* رزق أن يكون لك أسرة وإخوة وأخوات وأبناء عمومة وغيرك مقطوع من شجرة وحيدا فريدا!
* رزق أن تملك قلبا رحيما يحدب على المساكين وغيرك قلبه قاس لايرحم!
* رزق وأعظم رزق أن تكون مؤمنا موحدا وغيرك قد اتخذ الجرذان ربا إلها له!
* أن يكون لك أم حنون وأب عطوف وقد عم اليتم الأرجاء!
* رزق أن تحب الخير للناس لا حسد ولا غل وغيرك قد أوقد الحسد نيرانا متقدة بين أحشائه وضلوعه!
* رزق أن تكون سمحا هينا لينا وغيرك يفيض عسرا ويقطر قسوة!!
* رزق أن تنام قرير العين لا سهر ولا هم ولا أرق ولا وجع وغيرك قد أسهره الدين وأطال ليله المرض!
* رزق أن تقرأ وتكتب وغيرك يتمنى حرفا يقرأه!
* رزق أن تسمع الآذان وتجاور بيوت الله وتزورها بأمان وغيرك يقطع المسافات والبيد لكي يصلي فرضا!
* رزق أن تملك كلية تنقي دون أي جهد وغيرك يحتاج لساعات غسيل!
* رزق أن توهب نعمة وتبعد عنك نقمة ويهديك الله للبر ويدفع عنك الشر وفعله!
تلك نماذج أضرب بها المثل فقط ..وإلا فالحصر يستعصي!
والآن هل عرفت كم غمرك رزق الله وفاض عليك؟!
* وقفات مع الرزق!
1- الأرزاق قد قسمها ربي ولن تغادر هذه الدنيا حتى تأخذ ماقدره الله لك!
يقول الحسن البصري: علمت أن رزقي لن يأخذه غيري فاطمأن قلبي!
2- لا علاقة للذكاء ودقة الفهم بالرزق فالجاهل يرزق والصغير يرزق والضعيف يرزق
لو كانت الأرزاق تجري على الحجا
لهلكن إذن من جهلهن البهائم
3- الرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان ومحبة الله وخشيته ورجائه، ونحو ذلك: فلا يعطيها إلا من يحب» (ابن سعدي)
4- ربما يبذل الإنسان من الجهد أعظمه ومع ذلك لايحصل شيء فلله الأمر من قبل ومن بعد
أُغرِّبُ خلْف الرّزق وهو مُشرّق
وأُقسِمُ لو شرّقت راح يُغرِّب
يقول الشعراوي: ما كان لك سيأتيك ولو على ضعف ومالم يكتب لك لن تناله بقوتك!
ومضة قلم
السّعيدُ لاَ يَملكُ كُل شَيء ولَكنهُ يَسعد بأَي شَيءَ يَملكُه