د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
كتبت في الأسبوع الماضي الجزء الأول من هذا المقال، وكان حول التحولات التي طرأت على تكوين الأسرة السعودية نتيجة للتغيرات الاجتماعية التي لم نكن مستعدين لها في الطفرة الأولى، حيث اضطررنا لاستجلاب الخدم المنزليين والسائقين لمساعدة الأسرة على التكيف مع التغيرات الحديثة الطارئة على مجتمعنا. وذكرت أن للخدم المنزليين كلفة تربوية باهظة انعكست على شخصيات بعض شباب اليوم تمثلت في الإهمال، والكسل، وعدم الاكتراث بالبيئة، والعنف أحياناً، إلى آخر ذلك مما نشاهده اليوم من مظاهر سلوكية سلبية. فوجود هذه العمالة أسهم في شرذمة الأسرة في مجتمعنا.
ومعروف أن التخطيط الاجتماعي للدول عنصر أساس ومهم لنجاح أي تخطيط آخر، وخاصة لتطوير القوى البشرية للأوطان. وكثير من شبابنا اليوم يعتمدون على أسرهم في إعالتهم ومساعدتهم، وبعضهم يعاني من الإحباط واليأس لتعقد الحياة والمجتمع، ولذا فهو غير قادر على منافسة اليد العاملة الوافدة الأكثر حيويةً واعتماداً على النفس.
وللمعلومية، فقد ظهر علم الاجتماع في القرن الثامن عشر، وذلك بسبب التغيرات الاجتماعية الكبيرة التي أحدثتها الثورة الصناعية في حياة عشرات الملايين من البشر. وما زالت الدراسات الاجتماعية ودراسات علم نفس المجتمعات مزدهرة حتى يومنا هذا بسبب حيويتها للتخطيط للمجتمعات وللسلم الاجتماعي. ولكنها وللأسف تغيب عن خططنا الدورية لأنها غير واضحة للعيان. فنحن نركز على نواحي الاقتصاد، والعمل، والدين، ونهمل الجانب النفسي للمجتمعات. وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن أسباب العنف بمختلف جوانبه الأسرية، أو الجنائية، أو حتى الإرهاب لها دوافع عميقة في تربية المجتمعات، ولها جذور أعمق في سوء التخطيط الاقتصادي، والاجتماعي، والتشريعي للمجتمعات. فالعنف في أمريكا أكثر منه في كندا، وفي كندا أكثر منه في اليابان. وهذا يعود في رأي الخبراء ليس لاختلاف في طبيعة سكان هذه البلاد بل لاختلاف في تطور مجتمعاتها.
والجميع يستغرب مثلاً من أسباب هذا العنف المستشري في الدول العربية بين شعوب كان يضرب بها المثل في التعايش السلمي وكرم الضيافة. ويستغرب أكثر كيف تحول الدين الإسلامي، دين السلام والتسامح لأداة تطاحن بشع لا مثيل سابق له في تاريخ أو جغرافيا. ونحن نردد دائماً أن العيب في المسلمين وليس في الإسلام ولكن أياً من الدول العربية لم تكلف نفسها ببحث دوافع هذا العنف بين المسلمين بشكل جاد.
عندما خططت الدول الغربية والشرقية على حد سواء للتطور الاقتصادي حسبت حساب الجانب الاجتماعي والأسري، وأدركت أن التحول الصناعي الجذري لا بد وأن يكون على حساب تغيرات في العلاقة الاجتماعية. وشيئاً فشيئاً بدت ملامح التغيرات الأسرية تظهر في الأفق. وأدركت هذه الدول جميعها، بما فيها كوريا، واليابان، والصين أنه لا يمكن بناء اقتصادات صناعية أو خدمية حديثة على نظام علاقات اجتماعي إقطاعي. وبدأت تضع خطط الإسكان، والتعليم، والصحة، والمواصلات على أسس مستقبلية وليس على أسس متطلبات الماضي. وتم تصميم وتوجيه مشاريع الإسكان العامة والخاصة على اعتبارات سهولة التنقل حسب حاجات العمل، وليس كما كانت الأسر الكبيرة تعيش في الماضي. وملاحظة هي التغيرات التي طرأت على أشكال المنازل وأحجامه، وعلى طرق المواصلات في معظم الدول الصناعية.
فالتخطيط الاقتصادي السليم يتطلب تطوير كافة مناطق البلاد، وينظر لأمور الإسكان والتوظيف على هذا الأساس بدلاً من إهدار الأموال على شراء الأراضي المكلفة في المدن الكبرى. كما أن إبقاء أراض بيضاء في المدن الكبيرة أمر حيوي لتطور هذه المدن المستقبلي. والإسكان يجب أن يتناسب مع حجم ومكان توفر فرص العمل والوظائف حسب الحاجات الاقتصادية، لا العكس. فندما يوفر السكن في مناطق لا تتوفر فيها فرص العمل يزيد ذلك من تفشي البطالة واستدامتها. ولذا فالموازنة بين التمليك والإيجار ضرورية أيضاً، فالأول يتناسب مع شكل المجتمعات التقليدية والأخير يتناسب مع الاقتصادات الحديثة التي تتطلب سهولة القدرة في التحرك والتنقل. فالوحدات السكنية المؤثثة المعدة للتأجير تلبي حاجات الأعمال لسرعة التحول الوظيفي.
الأمر الآخر هو التوسع في دول العالم المتقدم في التأسيس لدور الحضانة والرعاية الأولية تلبية لحاجة الأسر التي يضطر فيها الزوجان للخروج للعمل، وتوفير العمالة المنزلية الوقتية بدلاً من استقدام عمالة مقيمة تتقمص دور الأم والأب. فنحن إذا أردنا التحول الاقتصادي بأي شكل لا بد أن نهيئ الأسر ونوعيها بكيفية التكيف مع هذا التحول. وبما أنك لا تستطيع صعود جبل بكل أمتعتك، فإنك لا يمكن أن تنمو اقتصادياً بوحدات أسرية متضخمة. وقد حان الوقت في نظري أن تدرك الدولة ضرورة توعية المجتمع أسرياً حتى تحد من الكلفة الاجتماعية والأسرية للمواليد الجدد. فما زال معدل عدد أطفال الأسرة السعودية يحوم حول ستة أطفال، وما زال البعض يشجع على تعدد الزوجات علناً دونما اكتراث بالجوانب الأسرية.
وآخر أمرنا هو أمور الترفيه في المجتمعات، فأي تغير أسري يتطلب تغير مفاهيم الترفيه من الأمور الأسرية والولائم، إلى ترفيه جماعي اجتماعي، وهذا ما فرضته التحولات في الدول الأخرى. حيث تزدهر الحدائق، والمطاعم، ومدن الترفيه، والسينمات كأدوات ترفيه عائلية. فإذا أردنا أن نتحول لدولة حديثة لا بد أن نتعلم ممن سبقونا ونخطط لذلك ليس بشكل مطابق بل بشكل مماثل يتناسب مع حياتنا وطبيعتنا الجغرافية والاجتماعية.