د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
كثر الحديث مؤخراً عن خطط طموحة لإصلاح وإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني بمساعدة شركات استشارية عالمية وعلى رأسها شركة ماكينزي، وتهدف الخطط باختصار إلى جعل الاقتصاد السعودي أكثر كفاءة، وأكثر منافسة، وأقل اعتمادا على النفط، ويقود هذا التغير مجلس الشئون الاقتصادية والتنمية برئاسة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي ينظر له على أنه يجسد روح الشباب والطموح في الدولة، والجميع يتمنى التوفيق له في جهوده.
وقد اهتمت وسائل الإعلام العالمية، كالعادة، بما يجري في المملكة العربية السعودية من إجراءات اقتصادية جذرية لأن المملكة أكبر اقتصاد في المنطقة، ولديها احتياطيات ضخمة من النفط، وكذلك احتياطيات ضخمة من العملة الصعبة، ولذلك لا غرو أن تتسابق وسائل الإعلام هذه لإجراء مقابلات مع الشخص المعني بهذا التغيير وهو سمو الأمير محمد. ونتوقع أن يعلن قريبا عن كافة تفاصيل هذه الخطط التي ظهرت بوادرها في رفع سعر الوقود المحلي، وكذلك رفع الدعم عن أهم مرفقين لهما علاقة بالمواطن السعودي وهما الماء والكهرباء. ولكن حسب تقرير صدر لماكينزي مؤخراً هناك المزيد من الإجراءات التي تشمل إجراءات أكثر عمقاً وتأثيراً.
فمهمة ماكينزي حسب التقرير هي مساعدة السعودية في رسم خطط اقتصادية تقلل اعتماد المملكة على النفط التي تعتمد عليه المملكة بشكل شبه كلي في تأمين دخلها القومي. وسبق وانتقدت المملكة من الداخل والخارج في استمرار اعتمادها بشكل شبه كلي على مصدر دخل واحد هو في النهاية مصدر ناضب، وفي عدم تنويع مصادر الدخل القومي. وكانت حكومة المملكة تنص في جميع خططها الخمسية التنموية السابقة، تسع خطط خمسية تقريبا، على ضرورة اتخاذ خطوات لتنويع مصادر الدخل السعودي وعدم الاعتماد على النفط، وكانت الخطط دائما تأتي بنتائج أقل من التوقعات للاقتصاد ككل، وأقل من التوقعات بكثير للقطاع الخاص التي كانت الخطط تدعمه وتعول عليه للمساعدة على هذا التنويع.
وما حصل عليه الاقتصاد الوطني طيلة خطط دعمه للقطاع الخاص هو قطاع خاص أقل ما يقال عنه إنه لم يكن بالكفاءة المتوخاة، وهو قطاع من أعلى القطاعات ربحية ليس بسبب الكفاءة بل لانعدام الرقابة الحقيقة عليه سواء في قطاعات الإنشاءات، أو قطاعات التصنيع الهجينة، أو القطاعات التجارية وجميعها تنعم بتسهيلات لا يحلم بها أي قطاع خاص آخر في العالم من قروض ميسرة وأنظمة مرنة، ورخص في مصادر الطاقة والخدمات، وشبه انعدام للضرائب والرسوم، إلى غير ذلك من أمور التشجيع. وعندما نتكلم عن كفاءة قطاع خاص ما، نتكلم عن قدرته على التطور، وخلق الفرص الوظيفية، والمنافسة عالميا. فرغم كل هذا التسهيلات لم يستطع هذا القطاع تحقيق المأمول منه لا في خلق فرص وظيفية للشباب السعودي، ولا في تطور الأداء الإنتاجي والتقني، ولا في المنافسة العالمية بل أن بعض مؤسسات القطاع الخاص وجدت في تسهيل أمور عمل شركات عالمية بالتوسط لها بامتيازات فروع لها في المملكة بمسميات سعودية أسلوب أكثر ربحية، وفرصة للاستفادة المباشرة من الدعم الحكومي، أي أننا اكتفينا باستقدام من كان يفترض بنا أن ننافسهم. وقد يجادل البعض بأن ذلك ضروري لتوطين التقنية غير أن ذلك لم يحصل وللأسف إلا في حالات قليلة، وغالبية الشركات اكتفت بتغليف منتجاتها في المملكة، واشترطت إحضار عمالتها المدربة معها، بل أن كثيراً من شركات القطاع الخاص السعودي أسست مصانعها المشتركة في الصين والهند ودول أخرى بسبب رخص اليد العاملة وما زال تعظيم هامش الربح بأي شكل هو المقياس الأوحد للنجاح الاقتصادي لدينا، أما المشاركة في توظيف الشباب السعودي، أو المشاركة الحقيقية في الناتج المحلي فهي أهداف ثانوية. فكانت النتيجة خلل جسيم في سوق العمالة بوجود 13 مليون عامل أجنبي في اقتصاد نسبة البطالة المحلية فيه تقارب أو ربما تفوق 20 %.
ومن واقع تجربتنا، وواقع خصوصيتنا الاقتصادية، فإن الأمثلة الأنجح هي الشركات التي كانت الحكومة طرفاً فيها وتملك حصص الأسد فيها وتسيرها بشكل غير مباشر عبر اختيار مسئوليها، وعبر المشاركة في قراراتها، وهنا نذكر أرامكو، وسابك وهما الأقدر على المنافسة عالميا، ويتلو ذلك الشركات التي هي في شراكة مع هذه الشركات كينساب والنقل البحري الخ.. ولذا فكان حري بنا أن ندرس نماذجنا الناجحة وندعمها ونستنسخها في قطاعات أخرى كالإنشاءات، والاستيراد، والتصنيع، وأن ندرس تجاربنا غير الناجحة ونبتعد عنها. ولكننا وللأسف سمحنا أحيانا بخلق صعوبات لبعض نماذجنا الناجحة بالسماح بدخولها في منافسات غير محسوبة ولا مدروسة مع بعضها البعض وليس مع شركات منافسة أجنبية. فنحن سمحنا لأرامكو مثلاً أن تدخل في شراكة مع شركة «داو» لتؤسس مشاريع بيتروكيماويات تنافس بها سابك في مجالها بحجة تشجيع المنافسة!! حتى أن أرامكو، لأنها بدأت تنظر لسابك كمنافس لها وليس شريك وطني، ووقعت عقوداً نفطية ضخمة مع الصين والهند دونما إشراك لسابك التي لها مصالح كبيرة في هذه الدول. فالمنافسة على عكس ما يعتقد، ليست دائماً في مصلحة الاقتصاد، والدليل واضح من تنافس المنتجين في السوق النفطية ذاتها وانعكاسه على هبوط الأسعار. وكان بإمكان أرامكو السعي للتكامل مع سابك لا منافستها.
المقترحات التي أتت بها ماكينزي ليست جديدة وهي من صلب تحرير الاقتصاد الرأسمالي الذي يقوم على انسحاب الحكومة من الاقتصاد، بتحرير المرافق المؤممة ببيعها للقطاع الخاص، والاكتفاء بدور تسهيل الاستثمارات الأجنبية التي ستعمل الحكومة على تشجيعها. ويكون هذا في مجتمعات لا تملك الدولة فيها أي موارد أولية. وهذا من الناحية النظرية يعد خياراً متاحاً، ولكن لابد من التنبيه إلى أن ظروف تطبيقه قد تتطلب منا الكثير من الأمور الأخرى سواء اجتماعية أو تنظيمية قد لا تراها الدولة وقطاع كبير من المواطنين مقبولة. فدبي مثلاً، تنازلت عن الكثير من المسلمات الاجتماعية لتخلق بيئة تنافسية في المنطقة، ونجحت في جذب استثمارات كانت موجودة أساسا في دول مجاورة كلبنان والبحرين.
أما ما ورد في تقرير الشركة المتعلق بتطبيق نموذج إنفاق اجتماعي هدفه تدريب الكوادر السعودية لتصبح قوى فعالة ومنتجة تعمل في شركات تنافسية فهذا أمر نصت عليه كل الخطط الخمسية السابقة ومعروف أن المملكة نفذت أكبر برامج التدريب المهني في المنطقة وأكثرها كلفة وطموحاً. وكثير من برامج التدريب المهني لدينا تمت بمشاركة دول متقدمة كألمانيا واليابان. وابتعثت المملكة للخارج مئات آلاف الشباب، ولكن وللأسف عجز القطاع الخاص عن توظيفهم لاختلالات هيكلية فيه. وهذا ما كان يمكن أن تقدم ماكينزي دراسة مستفيضة عن أسبابه. أما من ناحية زيادة كفاءة الأجهزة الحكومية فقد كان الجميع يطالب به ويطالب بمحاسبة هذه الأجهزة على التقصير، وبمراجعة سياسة التوظيف فيها بتوخي الكفاءة والأمانة. وهنا يمكن القول إن ماكينزي لم تأت بجديد وإنما غلفت أفكاراً سبق وكتب عنها كثير من اقتصادينا بغلاف جديد. وبود الكثير منا أن يعرف كم من خبراء الاقتصاد في المملكة، وهم كثر، أشركتهم ماكينزي في دراساتها؟
أما الحديث عن أن هذه الإستراتيجية ستتيح المجال لاستثمار نحو أربعة تريليونات دولار في الاقتصاد غير النفطي في غضون عقدين من الزمن معظمها ستضخ من قبل القطاع الخاص، فهو أمر يبدو مفرط في التفاؤل بشكل يتعارض مع مهنية الدراسات. و أخشى ما يخشى أنه يدخل ضمن الوعود والتفاؤلات المعسولة السابقة التي سبب بعدها عن الواقع إحباطاً عميقاً للمخططين والمنفذين على حد سواء، وكان لهيئة الاستثمار لدينا تجربة تستحق الدراسة في مجال التخطيط لجلب لاستثمارات، والغريب أن الدراسات التي تقوم بها ماكينزي هي ذاتها نوع من الاستثمار الخارجي. نتمنى أن تثبت ماكينزي أن جميع اقتصادي المملكة مخطئون، وألا تكون بعض الإجراءات التي أوصت بها حققت هدفاً واحداً فقط وهو تحميل المواطن وحده عبء هبوط أسعار واردات الاقتصاد من النفط دونما نتائج تذكر في مجالات الإجراءات الأخرى.