سهام القحطاني
إن قيمة الأشياء لا تعتمد غالباً على «النسبة المرتفعة للتصفيق»؛ لأن الظاهرة الصوتية للتشجيع لا تصنع قيمة أو هكذا أعتقد، بل وأحياناً تسهم ظاهرة التصفيق تلك في ضبابية الرؤية وانزلاق الدلالة المكونة للقيمة وتفتيتها. لاشك أن الجميع قد يتفق على أن النظام الثقافي ما قبل رؤية 2030 هو نظام هش وضعيف ولم يستطع تكوين قاعدة صلبة لصناعة ثقافة جدية تتواكب مع التطور الفكري والعلمي للسعودية، وبالطبع لهذا الضعف والهشاشة أسبابها أهمها وعلى رأسها الرؤية الضيقة لقيمة الثقافة كونها غير مفيدة لفكر المواطن أو الجمهور، وهي رؤية حاصلة بسبب تمجيد الأدب وتصعيده مقابل الثقافة، وهو تمجيد وتصعيد أدخلنا في معارك فئوية بين المثقفين والأدباء التي دارت في الأندية الأدبية وطغت على لائحة الأندية الأدبية التي تمت تحت مرأى ومسمع وزارة الثقافة وباركتها، وشقت الصف ما بين أدباء ومثقفين، وبذلك أدخلت الجميع في متاهات مصطلح الأدب والثقافة، متاهات رأى البعض أن الخروج منها لن يتم إلا بإنشاء مراكز ثقافية تخص المثقفين، وتستقل الأندية الأدبية بالأدباء.
وهذا التقسيم الفئوي أضر بالتخطيط النهضوي للمجتمع؛ لأنه أدخل الجميع في تنافسية على أيهما يمثل قيمة قابلة للتنفيذ، وهي تنافسية على كافة الأصعدة هادمة للغاية النهضوية للثقافة والأدب على حدّ سواء.. وما أخشاه أن تُعزز هذه التنافسية الانفصالية لكليهما بعد نشأة هيئة الثقافة.
اليوم ونحن أمام أمر ملكي بإنشاء هيئة ثقافية انبثاقا من رؤية 2030 عدنا إلى ظاهرة التصفيق والتشجيع وأصبح كل منا يعرض ما يتمناه من هذه الهيئة العامة للثقافة، لكن هل هذا هو المدخل الصحيح لتأسيس الوثيقة الفكرية لهيئة الثقافة؟، أقصد عرض كل منّا ما يتمناه من هيئة الثقافة، قد يقول البعض أن عرض وجهات النظر المختلفة هو معين رئيس قد يُرشد مؤسسي الهيئة العامة للثقافة في تأسيس الوثيقة الفكرية لهذه الهيئة، لكن البعض الآخر قد يرى أن الاسترشاد بوجهات النظر تلك له سلبياته إذ ينطلق من محيط شخصي يعتمد على ثنائيتي التعويض والتبديل وبذلك فنحن نقف أمام ما يريده المثقف، لا ما ينبغي أن تحققه الثقافة في نهضة المجتمع.
والخروج من مأزق «ما يطلبه المثقفون» لن يتم إلا من خلال «تأسيس وثيقة فكرية لهيّكلة الهيئة» وهو ما يجعل اختيار المسؤولين عن تأسيس هذه الوثيقة، اختباراً صعباً لوزير الثقافة والإعلام.
لاشك أن تأسيس وثيقة فكرية لهيئة الثقافة تحتاج أولاً إلى تشخيص موضوعي للواقع الثقافي، ومكاشفة شفافة وواضحة لتحديات تنفيذ القيم الثقافية ما بعد رؤية 2030 والاستعانة بمكان القوة التي تميّز طبيعة الجمهور وبذلك فنحن أمام قاعدة ذهبية تحرك جذور تأسيس هذه الوثيقة هي «ما يطلبه الجمهور»، إضافة إلى أن الثقافة كما هي مستثِمر جيد لمكامن قوة المجتمع فهي أيضاً مستثمر لمعالجة عيوب أو نقص المجتمع وفق إجراءات ثقافية تراعي طبيعة مزاجية المجتمع و قيمه، وبذلك فنحن أمام القاعدة الذهبية الثانية «ما يحتاجه المجتمع من الثقافة».. فالوثيقة الفكرية يجب أن تُؤسس على ثلاثة محاور»الفاعل الثقافي، الإجراء الثقافي، والمنتج الثقافي».
والفاعل الثقافي لا أقصد به فقط «صانع المنجز الثقافي» أن صناعة الفاعل الثقافة هي نصف الرهان وليس الرهان كله، فالمتلقي الثقافي أو الجمهور الثقافي هو بدوره «فاعل ثقافي» رديف وهو الأهم في عملية صناعة الثقافة، لسببين أولهما: طبيعة المتلقي فالشباب يمثل أغلبية الشعب السعودي، وتلك الأغلبية هي مصدر التحدي لصناعة الثقافة، فالثقافة ليست كالأدب في نحيها النخبوي وفرض كفاية إنما هي منحى شعبوي، ومن تلك الشعبوية يتجاوز دورها فرض كفاية إلى كلية وواجب الاستلزام. وثانيهما أهمية المتلقي والجمهور؛ فالشباب هم صناع نهضة المجتمع، وهذه الأهمية يجب أن تستحوذ على مركز الوثيقة التأسيسية سواء من خلال الإجراءات التي تستهدفه بصورة مباشرة، ومن خلال مشاركته في تأسيس هذه الوثيقة، ومن خلال أيضاً تمكينه من تولي مسؤولية صناعة القرار الثقافي.