د. محمد عبدالله العوين
كان يوماً حاراً من أيام صيف عام 1400هـ حين دخلت ضحى ذلك اليوم على مكتب صغير يقع بجانب المصلى المعتاد القريب من استديوهات التسجيل؛ كنت أريد أن التقى بالأستاذ إبراهيم الذهبي؛ ولكن مقعده كان خالياً؛ إذ لم يأت بعد، وفي المكتب المواجه للباب جلس الأستاذ ماجد الشبل الذي يشاركه الغرفة، كان يرتدي شماغاً نظيفاً معتنياً بكيه وترتيبه على كتفيه وبدا لي أكثر شباباً وإشراقاً ووسامة من صورته على الشاشة، حييته تحية الصباح فرد علي بأحسن منها، ثم قال: تريد أبا نضال؟ وكأنه يعلم ذلك؛ لأنه يدري عن صلتي العميقة به منذ أن تولى تدريبي على العمل الإذاعي قبل ما يقرب من سنتين، قلت: نعم، ولكن يبدو أنني بكرت بالسؤال عنه بعد انتهاء الفترة الصباحية، سآتي في وقت آخر، ثم أردت الانصراف؛ ولكنه قال: تعال، لم أنت مستعجل؟ اجلس وخذ كوباً من الشاي، أصلح لي بتواضع فريد كوب شاي ساخن وسألني بلطف غامر وروح أب ومعلم: لم لا تجرب التلفزيون؟ هل لديك رغبة؟ فاجأتني جمله المتتابعة وكان بيدي ديوان شعر صغير الحجم لأمل دنقل عنوانه مقتل «القمر» فمد يده ليطلع عليه، ثم قال: ولديك حب للأدب، هذا جيد، ما رأيك لو ذهبنا سوياً الآن لإجراء تجربة تلفزيونية لك في مبنى التلفزيون المجاور ثم نعود لتلتقي أبا نضال؟ لم أحسن الجواب بنعم أو لا، لقد نهض من مكتبه ثم أمسك بيدي بعد أن أخذ معه رزمة أوراق على مكتبه علمت فيما بعد أنها نشرة أخبار سبق أن قرأها، ثم أغلق المكتب وتوجهنا إلى مبنى التلفزيون القديم الذي كان يسمى «الصندقة» ويفصل بينه وبين مبنى الإذاعة شارع التلفزيون؛ لأن شركة كبرى كانت في ذلك الوقت تشتغل على إنجاز المبنى الجديد للتلفزيون ببرجه الضخم، وبعد أن نزلنا من درج الإذاعة التففنا شمالاً بجانب السياج الخشبي المعد كطريق مؤقت للوصول إلى البوابة الرئيسة على الشارع لنعبر منه إلى الصندقة.
قال لي وأنا أقف لأول مرة أمام كاميرا التلفزيون: أرأيت الأوراق التي أعطيتك إياها الآن أشكلها لغوياً وإياك أن تخطئ، ثم اقرأ منها ثلاثة أخبار أو أربعة، ثم اقرأ من ديوان الشعر الذي معك إحدى القصائد، وبعد أن تستعد أعطني إشارة!
لقد كان الأمر كله محيراً مربكاً جديداً ولم أحسب له حساباً، ولم أفكر فيه من قبل؛ بل لم يدر في خلدي أن الوقوف أمام كاميرا التلفزيون ليس معجزة؛ بل هو يسير وسهل ومتاح، وها أنت الآن ترى أمامك مصوراً يثبت عين عدسته على وجهك ويأمرك أن تطالعه وأنت تقرأ بحيث لا ينغمس وجهك في الأوراق التي بين يديك كما تفعل في الإذاعة؛ بل وزع نظراتك بهدوء واتزان بين الأوراق والكاميرا؛ هكذا أوصاني ماجد وهو يضع إصبعه على زر المحادثة في غرفة الكنترول التي يتم فيها تسجيل التجربة، قلت: إن شاء الله سأفعل!
كانت لحظات مبهرة وغير عادية، فالأضواء الكثيفة مسلطة علي من كل جانب، والكاميرا بمصورها الواقف شاخصة أمام عيني وخلف الحاجز الزجاجي يقف الأستاذ ماجد وبجانبه فنيان لا أعلم ماذا يصنعان، والمطلوب مني أن اقرأ كما يقرأ كبار الإذاعيين التلفزيونيين دون أن ألحن أو أتوقف أو أخطئ في عبارة، إنه امتحان عسير لم أستعد له، ولكنها مغامرة يمكن أن أخفق فيها أو أنجح، ولا مجال للتردد أو التراجع، ليس أماك إلا الإقدام ولا وقت للإحجام! يتبع