لقد مثلت الزيارة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله - إلى تركيا بعد زيارته لمصر ترجمة واقعية عملية للرؤية الإستراتيجية للقيادة السياسية والتي تستند إلى مقومات وعوامل القوة المعتبرة التي تنفرد بها المملكة في كافة الجوانب الروحية والسياسية والاقتصادية والجيوسياسية والعسكرية، وكذلك إدراك صانع القرار في المملكة لمواطن التهديد والظروف الحرجة التي تمر بها المنطقة من اضطرابات تكاد تعصف ببعض الدول وعدم استقرار في البعض الآخر، فضلاً عن حالة اللايقين التي تُلقى بظلالها على المنطقتين العربية والإسلامية بل والعالم أجمع.
ولعل من أهم النتائج التي ترتبت على تلك الزيارة– ضمن أمور أخرى - هو التأكيد على تطابق الرؤية السياسية بين السعودية وتركيا فيما يتعلق بأمن واستقرار المنطقة والحرب على الإرهاب في إطار التحالف الإسلامي الذي دعت إليه السعودية وأن تركيا ماضية في دعمها لكافة خطوات المملكة في إطار الحراك الفعال للدبلوماسية السعودية الذي يستحث الخطى بقيادة خادم الحرمين الشريفين لحل الأزمات التي تواجه دول المنطقة؛ لا سيما ما تقوم به المملكة من دور بالغ الأهمية لإعادة الشرعية في اليمن، وأن الرياض وأنقرة يتشاركان الاهتمام بما يجري في سوريا ويوجد بينهما تعاون والتزام تجاه المعارضة السورية والاستعداد الدائم لدعمها، كما أن البلدين لا يريدان أي وجود لإيران وروسيا في سوريا، إضافة إلى اتفاقهما في قضية الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية وأن العلاقات بين البلدين هي علاقات تكامل أكثر منها علاقات مميزة؛ وقد جاء تدشين مجلس التعاون السعودي التركي بمثابة ترجمة لتلك الرؤية ودعماً لتلك العلاقات.
وعلى خلفية تزايد خطر الأطماع الإيرانية في المنطقة، وخاصة في الخليج؛ فقد تسهم نتائج الزيارة بشكل قوى في تشكيل جبهة للتصدي بشكل مشترك لأطماع إيران وسياساتها التوسعية؛ من خلال استمرار سعى الرياض لتطوير العلاقات مع دول العالم الإسلامي المختلفة، مثل تركيا، ومصر، والسودان، في مواجهة التهديدات التي تشكلها إيران؛ خاصة بعد أن خففت الولايات المتحدة الأمريكية من ضغوطها على إيران - عقب الاتفاق النووي - مما جعل طهران أكثر عدائية في المنطقة، الأمر الذي انعكس بشكل متصاعد في حالة عدم الاستقرار، بل والاشتعال في العراق وسوريا واليمن.
كما جاءت مشاركة خادم الحرمين الشريفين في قمة منظمة التعاون الإسلامي، في دورتها الثالثة عشر التي انعقدت في إسطنبول، في ختام تلك الزيارة، لتعبر عن استمرار جهود السعودية الرامية إلى بلورة مشروع قادر على مواجهة ما يتم التخطيط له من مشروعات أخرى لتحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الخليج والإقليم؛ وداعمة للحراك السعودي في كافة المسارات وعلى كافة الأصعدة ولتربط كافة القضايا التي تم تناولها مع الجانب التركي بقضية مشتركة تجمع كل المشاركين في تلك القمة؛ ألا وهي مكافحة الإرهاب واستفحال المنظمات الإرهابية، من المغرب غربا إلى إندونيسيا شرقا.
فمع اتفاق الجميع على أولوية محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، ثمة خلافات تتفاوت حدتها بين الدول الإسلامية تجاه بعض الملفات، وقد كان ملف (منظمة حزب الله) تلك المنظمة الإرهابية - طبقاً لتصنيف معظم الدول العربية، ولا سيما الخليجية، حاضراً بقوة في القمة وقد تكلل سعى المملكة بالنجاح؛ ليس فقط فيما يخص الأعمال الإرهابية لمنظمة حزب الله؛ بل فيما يخص إيران نفسها؛ حيث ندد البيان الختامي للقمة بـ « تدخلات إيران في الشؤون الداخلية لدول المنطقة ودول أخرى أعضاء، منها البحرين واليمن وسوريا والصومال، وباستمرار دعمها للإرهاب «؛ كما دعا إلى قيام علاقات تعاون بين الدول الإسلامية وإيران على أساس مبادئ حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام استقلالها وسيادتها ووحدة أراضيها؛ في حين دان البيان « حزب الله لقيامه بأعمال إرهابية في سوريا والبحرين والكويت واليمن، ولدعمه حركات وجماعات إرهابية «، ولعل رد الفعل الإيراني قد جاء مبكراً؛ حيث ذكرت وسائل الإعلام الإيرانية أن الرئيس الإيراني ووفده لم يشاركوا في الاجتماع الختامي للقمة اعتراضا على هذه الإدانات تجاه طهران.
ولعل أهم ما أسفرت عنه الزيارة هو ترسيخ فكرة أن أحد أهم أسباب نجاح وقوة التحالف السعودي - التركي يكمن في قدرة الطرفين على تقوية وتعظيم العوامل التي يمكن ان تُبنى عليها مصالحهما المشتركة، وتركيزهما على الملفات التي يتبنيان فيها وجهة نظر واحدة أو متقاربة.
ومما يعظم المكاسب والفوائد، التي نتجت وتنتج عن تلك الزيارة، هو صلاحيتها وفعاليتها كنقطة انطلاق لبناء سياسة إقليمية جديدة وتعاون إسلامي، مختلف عن السابق، لمواجهة التهديدات والتحديات في المنطقة العربية والعالم الإسلامي؛ حيث كانت السعودية وتركيا من أبرز الدول الإقليمية التي وقعت على الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تهديد تنظيم الدولة الإسلامية، كما قادت المملكة في وقت سابق من هذا العام مبادرة لتشكيل تحالف عسكري إسلامي ضد الجماعات الإرهابية المتطرفة، وهو ما أشادت به وسائل الإعلام الحكومية التركية بالتحالف ووصفت المبادرة بأنها « تنافس منظمة حلف شمال الأطلسي العسكري «كما شارك الجيش التركي في فبراير مع حوالي 20 دولة في تدريب عسكري واسع النطاق في المنطقة قادته السعودية، وأرسلت الرياض أيضا العديد من الطائرات المقاتلة للمشاركة في تدريبات عسكرية تقودها القوات الجوية التركية في مقاطعة كونيا بوسط تركيا؛ وبالتالي فقد أرسلت تلك الزيارة بالعديد من الرسائل الصريحة لكافة دول المنطقة، بل وللفاعلين الدوليين، مفادها أنه لا يمكن لدولة بمفردها أن تواجه التحديات المتفاقمة في منطقة الشرق الأوسط والتي يأتي على رأسها الإرهاب؛ وهو ما يشكل استمرارية لمنهج المملكة في هذا الشأن.
وبإلقاء نظرة سريعة على اتفاق التعاون، الذي تم توقيعه أثناء تلك الزيارة، يمكن أن نستشرف بعض الأفاق المستقبلية لعلاقة البلدين والفوائد العديدة المتوقعة من هذا التعاون على العديد من المستويات؛ فنظراً لتمتع السعودية وتركيا بثقل إقليمي ووجود توافق كبير في سياستهما والنهج المتقارب بينهما بشأن المنطقة؛ كان من الضروري أن ينعكس ذلك على تعاونهما في كل القضايا، وهو ما تم بلورته من خلال التوقيع على اتفاقية رسمية حول تأسيس مجلس تعاون استراتيجي رفيع المستوى وهو آلية لمؤتمر حكومي، حيث قد سبق وتم اقتراح الفكرة في البداية (خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إلى السعودية في شهر ديسمبر من العام الماضي وناقشها رئيس الوزراء التركي بشكل أعمق في الرياض في يناير الماضي)؛ من أجل تنسيق وتطوير العلاقات بين البلدين في مجالات الاقتصاد والسياسة والدفاع والأمن والتعليم والصحة، وقد تم التأكيد على إن الاتفاقية ستضع إطارا للآفاق الإستراتيجية المشتركة في شكل هيكلي , وأنها ستعمق العلاقات الثنائية بشكل أكبر؛ مما قد يؤدى إلى بناء تكتل قوى بين البلدين ويوجه رسائل للأطراف المعنية بالملفات المختلفة وقد يغير التوازنات في المنطقة والعالم.
وبنظرة تحليلية يمكن إدراك الدور المحوري والحيوي الذي يمكن أن يلعبه الملف الاقتصادي لدفع هذا التعاون بين الرياض وأنقرة في الاتجاه المأمول؛ فكما هو معلوم لدى المشتغلين بالشأن الاقتصادي فان التعاون في المجالات والأنشطة الاقتصاديةً يمهد السبيل لنشأة وتقوية العلاقات الدولية، حيث يضع الأسس اللازمة لترابط في العلاقات والمصالح المشتركة بدءاً من رجال الأعمال والشركات وكافة مؤسسات القطاع الخاص والهيئات التي تمثلها (مثل الغرف التجارية وغيرها) من خلال التواصل وعقد الندوات واللقاءات والمؤتمرات ومختلف الفعاليات، وصولاً إلى دور الحكومات والذي يتمثل في دعم المناخ المناسب والملائم لتطوير وتعزيز وزيادة تلك العلاقات والمصالح الاقتصادية المتبادلة؛ بإيجاد القواعد القانونية المنظمة لها و إبرام اتفاقيات تعاون رسمية بين الدولتين؛ وهو الأمر الذي بدأ ومستمر بخطى حثيثة في حالة مجلس التعاون الاستراتيجي السعودي–التركي؛ فهناك العديد من المنافع والفوائد التي من المنتظر أن يتم قطافها في القريب العاجل؛ فأنقرة تتطلع إلى الرياض كشريك اقتصادي مهم قد يعوضها عن فقدان مصادر الطاقة التي تلوح بها موسكو في وجهها، كما أن احتياطي النفط والغاز العالمي لدى الرياض يجعلها من البلدان التي تستطيع أن تساهم بسد احتياجات تركيا من الطاقة، وبالتالي فان قيام تعاون اقتصادي بين البلدين في مجال الطاقة سوف يسهل ويسرع عملية تطوير العلاقات المختلفة بينهما؛ أما عن المكاسب التي يمكن للملكة أن تجنيها من هذا التعاون، فإن انخفاض أسعار النفط وتزامناً مع التوجه الحثيث لتطبيق برنامج التحول الوطني الذي يجسد رؤية المملكة لمرحلة ما بعد النفط يجعل من المهم أن تبحث المملكة عن مجالات أوسع وأرحب لتوجيه استثماراتها، وهو ما يتوفر في مجالات مثل قطاع البناء والعقارات الذي يتوفر للشركات التركية خبرة كبيرة فيه؛ وتشير بعض التقارير الأولية في هذا السياق أن قيمة العقود التي يستهدف أن يتم توقيعها بين الشركات التركية العاملة في مجال الإنشاءات تقارب الـ (240 مليار دولار )؛ فيما تنشط 480 شركة استثمارية سعودية بتركيا، ومما لاشك فيه كذلك أن اتفاق التعاون بين البلدين سوف يسهل ويفعل من عملية جذب القطاع الخاص السعودي للاستثمار في تركيا، مما يزيد من حجم التبادل التجاري بينهما، والذي يبلغ حالياً نحو (6 مليارات دولار) وهو ما سيساهم في تحقيق مزيد من الأهداف الستراتيجية المنشودة بين البلدين.
- رئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية الصناعية بمحافظة المجمعة