سعد السعود
طقوس يومية تمارسها بطلة المقال.. استيقاظ قبل أن ينتصف الليل.. ومغادرة صباحية قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.. ليست حكاية يوم ويمر.. بل هي رواية دهر.. السائق يصل لباب المنزل.. تتسارع الخطى.. تلمح أطفالها النائمين على عجل.. لتطبع عليهم القُبل.. تلبس عباءتها وترحل.. والنية.. القرية الفلانية.. والسبب.. عمل ومدرسة ومهام يومية.
هكذا كل يوم تستودع عيالها وزوجها وبيتها.. ولا تعلم أتعود أم تكون الرحلة الأخيرة.. لا تعلم أترجع على قدميها أم محمولة في نعشها.. لا تعلم هل هذا الطريق الذي يذهب بها حية سيعيدها بأنفاسها.. لا تعلم هل هذه الرؤية الأخيرة لبيتها ستتلوها زيارة أم تودعه لقبرها.
مسافات تقطعها.. وطرق سريعة تسلكها.. تضع روحها على كفها.. لا تعلم ما يخبئ لها القدر.. رهينة بعد مشيئة الله مفاجآت الطريق وتهور البشر.. وإن سلمت من هذا وذاك.. لم تأمن غضب السائق أو اختلال مزاجه أو حتى مشكلة لدى عياله.. تجبره على السير بسرعة.. لتعيش على أعصابها حتى تصل.. وقد لا تصل!!
حكاية معلمة.. بل مآسي معلمات.. ساقهن حظهن العاثر ليكن رهينة بُعد المسافات.. فأصبحت حياتهن أشبه بمسلسل من حلقات.. لا ندري متى الحلقة الأخيرة؟ لا يلوح بالأفق أدنى انفراج لمن أضحت للبعد أسيرة؟.. وكل خطأ ارتكبته أنها تخرّجت فلم تجد مكاناً إلا بأقصى المعمورة.
بالأمس القريب.. أربع معلمات.. أربع أمهات.. على طريق عنيزة الخرماء فارقن الحياة.. بعدما تعرضن لحادث سير، وهنا من مدارسهن عائدات.. غادرن هذه الحياة بلا سابق إنذار.. والآمال كانت تحدوهن لأن يُرحمن من هذا الاغتراب.. وينتهي تعبهن من رحلات الذهاب والإياب.. ولكن سبق الأجل الأمل...!
حادث.. وقبله حوادث.. ووفاة.. سبقها العشرات.. ذات السيناريو المحزن يتكرر.. وقلوب الأحبة لوداعهن تتفطر..أسر وعوائل تتحسر.. ومناظر يندى لها الجبين ويتمعر.. ولا شيء يطبب الخاطر أو يمحو ذاك الأثر.. وكيف تستطيب الأفئدة وهي بالألم تعتصر.. إلى متى هذه الدماء وذاك النهر؟ أليس لهذه الفواجع من آخر؟!
المؤلم أنه لا الوزارة ولا مواقعها في التواصل الاجتماعي.. ولا حتى المتحدث الرسمي ولا حسابه.. قد قدموا حتى تعزية بهؤلاء المعلمات.. وكأن الأمر لا يعنيهم.. أو أن هذه الفاجعة لم تستثر مدامعهم.. فبعدما شحت حلولهم.. إذ بنا نفاجأ حتى بجفاف أحبار تعازيهم..!
ماذا أقول سوى: إلى الله المشتكى.. أما لهذا الأسى من نهاية ومنتهى.. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.. فقد أدمت قلوبنا مناظر ضحايا الطرق وهي ممددة في العراء.. وأدمعت عيوننا صرخات الأطفال وهم يتساءلون عن أمهاتهم ويبحثون في وجوه الحاضرات في العزاء.
أخيراً.. الكثير يتساءل: أليس هنالك حلول جذرية لتلك المعاناة؟ أين ذهبت وعود تقليص دوام المعلمات في المناطق النائية والتي بشر بها الأمير خالد الفيصل عندما كان وزيراً للتعليم؟ ولماذا لم توجد آلية ترفع من محدودية النقل الخارجي رغم كل الورش والاجتماعات التي عقدت؟ ولماذا لا يتم استحداث نظام لتوطين المغتربات داخل مدارسهن بدل التردد ذهابا وعودة؟ ولعلي هنا أقترح حلاً لعله يخفف شيئاً من تلك المعضلة بل ويسهم في تقليل عدد المنتظرات للتعيين: وهو بجعل الوظيفة مقسومة على معلمتين.. وبالتالي نقلص بذلك عدد المنتظرات وأيضا نسهم في حل ولو جزئي لما تكابده المعلمات في المناطق النائية بجعل العمل مقسوما بين اثنتين.. المهم لنتحرك قليلاً للأمام بدل انتظار فاجعة تلو أخرى.. ونحن لا نملك سوى الحسرة.
آخر سطر
اللهم ارحم من فارق ديارنا وأصبح القبر داره.. اللهم آنس وحشتهم ونور قلوبهم واغفر ذنوبهم وارحمهم يا أرحم الراحمين.