د. عبدالحق عزوزي
كنت قد نشرت للعلامة المغربي الدكتور عباس الجراري بحثا قيما في كتاب جماعي قمت بتحريره عن الاستراتيجية، والبحث يتحدث عن دور العلماء عبر العصور في جمع الكلمة وتحقيق الوحدة والالتزام بالوطنية والجماعة ونبذ التعصب والتفرقة ومواجهة المستعمر وترشيد عقول الخاص والعام في ضرورة خلق الثقة بين الحاكم والمحكوم... تحدث المستشار وعضو أكاديمية المملكة المغربية عن دور علماء الصحراء المغربية وأدبائها في تثبيت الوحدة الوطنية. وكمظهر أول يلفت نظرنا التصريح بالانتماء إلى المغرب. فنجد هذا في تراجم علماء الصحراء الذين يذكرون في نسبهم أنهم مغاربة. وأكتفي بمثال واحد أو مثالين: «حرمة بن عبد الجليل بن القاضي العلوي المغربي». هكذا يؤرخ له الولاتي في «فتح الشكور». ومثله عالم آخر هو عبد الله البوحسني الذي يشار في تسميته إلى أنه «المغربي». كذلك عندنا عدد من الشناقطة ينسبون أنفسهم للمغرب. يقول التجاني بن بابا أحمد في «منية المريد»:
قال ابن بابا العلوي نسبه
المغربي المالكي مذهبه
وهكذا أمثلة كثيرة لعلماء يذكرون في نسبهم ويفخرون بأن ينسبوا إلى المغرب. الأمثلة متعددة، ولكن أنتقل إلى جانب آخر من جوانب هذا التواصل بين الشمال والجنوب عبر الثقافة، فأقف عند عمق الوحدة في البعدين الديني والفكري.
هناك وحدة التوجه الديني والمذهبي عبر العقيدة وعبر المذهب. ونحن نعرف بالنسبة للمغاربة أن العقيدة أشعرية، وأن المذهب مالكي. هذه العناصر نجدها متبادلة ومتداولة عند علماء الصحراء ورجال الفقه والعقيدة. يتجلى ذلك من خلال المتون التي كانت تدرس وما زالت تدرس في الشمال وفي الجنوب. إذا نحن استعرضنا ما كان يدرسه الطلبة الصحراويون وفقهاء الصحراء، نجد أنها هي نفسها التي كانت وما زالت موجودة عندنا: متن ابن عاشر، وشرح ميارة، و»الشفا» لعياض، و»دلائل الخيرات»، و»حكم» ابن عطاء الله، و»إضاءة الدجنة» للمقري، وحتى خارج الفقه والعقيدة فإن المتون هي هي، كما في النحو وفي اللغة والعروض، إذ نجد «الأجرومية» و»شرح الألفية» للمكودي، وشرح السبتي على الخزرجية إلخ...
بل إن علماء الصحراء لا يكتفون بتدارس هذه المتون، ولكن يشرحونها اهتماما منهم بها. ولا أريد أن أطيل بذكر العلماء الصحراويين الذين شرحوا مؤلفات مغربية في هذا المجال. ويكفي التذكير ببعض الأسماء: الشريف محمد بن الإمام الحسني الإدريسي المتوفى سنة ثمان ومائتين وألف للهجرة (1208هـ) يضع شرح «البسط والتعريف في علم التصريف» للمكودي؛ عبد الله البوحسني يشرح «إضاءة الدجنة في عقائد السنة للمقري»؛ ابن الحاج لمين لتواتي يشرح «نظم المقنع» للمرغيتي. وهكذا نجد علماء الصحراء يقفون عند هذه المتون التي ألفها المغاربة ويشرحونها؛ وكذلك بالنسبة للتصوف، يكفي أن نقف عند ما ألفه سيدي العربي بن السايح المتوفى سنة تسع وثلاثمائة وألف للهجرة (1309هـ) إذ وضع على منظومة «منية المريد» للطالب العلوي الشنقيطي شرحا هو المعروف بـ»منية المستفيد من منية المريد».
وإذا أردنا أن ننظر بعد هذا في بعض المظاهر التي تبرز هذا التواصل بين علماء الشمال وعلماء الجنوب، يصادفنا في البداية بعض العلماء الصحراويين الذين أقاموا في الشمال. يذكر من بينهم محمد محمود البيضاوي الشنقيطي العالم الكبير الذي هاجر إلى مراكش وكان يُدرس بها، توفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف هجرية. أنا أتعمد في بعض الأمثلة أن أشير إلى التواريخ، لأنها تدل على الصلات القديمة وليست الصلات الحديثة كما قد يظن البعض. تذكر أخته خديجة بنت البيضاوي أيضا، هاجرت إلى مراكش واشتغلت بالتدريس، وكانت عالمة مستحضرة للسيرة وللغة العربية والنحو. وهي والدة الأديب العالم محمد البيضاوي الشنقيطي الذي كان له حضور قوي في الشمال، حيث أقام في تطوان وطنجة والرباط، وتولى مناصب، وكانت له مساهمات في التدريس وفي التأليف، وهو شاعر من كبار شعراء المغرب. وكانت وفاته بتاريخ حادي عشر محرم سنة خمس وستين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق دجنبر عام خمسة وأربعين وتسعمائة وألف للميلاد.
يذكر كذلك من الذين أقاموا في الشمال محمد بابا الصحراوي المتوفى سنة اثنين وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة، فقد استقر سنين عديدة في إليغ في سوس حتى صار كأحدهم، كما يقول صاحب «المعسول» المختار السوسي رحمه الله. كما يذكر محمد سالم الصحراوي، والشيخ سيديا بن الشيخ سيدي أحمد ولد الديماني، وماء العينين بن العتيق، واللائحة طويلة بأسماء العلماء الصحراويين الذين أقاموا في الشمال، وكان لهم حضور قوي في التدريس وفي الوظيف، وبالتالي في تمتين الروابط.
كذلك تذكر الوفود الرسمية التي كانت تتبادل الزيارات بين الشمال والجنوب، سواء من هذا لاتجاه أو ذاك. وتكفي الإشارة إلى الوفد، كما استقصى ذلك الأستاذ عباس الجراري، الذي كان قد زار الساقية الحمراء في عهد المولى عبد العزيز. وكان الهدف من هذه الرحلة هو استخلاص طرفاية من الإنجليز. وعندنا نصوص شعرية تدل على الترحيب الذي لقيه هذا الوفد، وكان يتكون من خمسة أفراد. ويحضرني هنا مطلع قصيدة قالها العلامة إبراهيم البواري يقول فيه:
أهلا بهم من خمسة أعلام
بل خمسة كقواعد الإسلام
ولابد في هذه المظاهر أن نذكر اتصال علماء الصحراء وأدبائها بملوك المغرب وأمرائه، وهي ظاهرة نسجلها منذ العصر الموحدي في القرن السادس الهجري. فعندنا الشاعر أبو إسحاق بن يعقوب الكانمي، كان قد اتصل بالمنصور الموحدي، ومدحه بقصيدة أذكر منها هذين البيتين:
أزال حجابه عني وعيني
تراه من المهابة في حجاب
وقربتي تفضله ولكن
بعدت مهابة عند اقترابي
كذلك يذكر، ونحن نطوي المراحل، الشاعر عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي، اتصل بالخليفة سيدي محمد بن مولاي عبد الله، وكان بينهما تبادل كتب وغير ذلك. كما يذكر الشاعر محمد المجيدري ابن حبيب الله الذي كانت له حظوة عند السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وكان يدرس ويُدرس كذلك في فاس. يذكر أيضا عبد الله العلوي المعروف بابن رازكة الشاعر الكبير، توفي في حدود الثلاثين ومائتين وألف للهجرة. كان من خاصة محمد العالم وله قصائد كثيرة فيه وفي مكناس. ومثله المختار ابن الهيبة الأبيري الذي كان كاتبا للسلطان المولى عبد الرحمن، ومحمد بن سيدي محمد حفيد بن رازكة الذي سبقت الإشارة إليه، فهو أيضا كان متصلا بالمولى عبد الرحمن، وكانت له فيه مدائح كثيرة. لا بأس في هذا الاستعراض أن أشير إلى الشاعر معاوية بن الشد التندغي، إذ له قصائد في المولى اليزيد ابن سيدي محمد بن عبد الله، وأن أشير كذلك إلى الأمين بن محمد المختار الديماني الذي له قصائد في مدح المولى عبد الحفيظ، والنماذج كثيرة. هذا إلى جانب الأدباء والشعراء الذين كانوا يكتبون نصوصا ويبدعون القصائد. وهذا عنصر مهم في التواصل، متمثل في الذين سجلوا هذا الارتباط، وهم شعراء كثيرون يكفي أن أشير منهم إلى محمد الحسن بن عبد الجليل العلوي (في القرن الثالث عشر)، ومحمد العلوي أيضا في نفس القرن، وكما يذكر الشاعر محمد فال ولد أباه بن بابا الذي هو والد الأستاذ المختار ولد اباه.
هذا، وإن من المظاهر التي لابد من تسجيلها، والتي تثبت هذا التواصل الذي كان بين الشمال والجنوب، أن ملوك المغرب كانوا يعنون بطبع إنتاج علماء الصحراء منذ دخلت المطبعة في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. والكتب التي طبعت لعلماء الصحراء هي أكثر من أن يشار إليها، ويكفي أنه طبعت كتب كثيرة لأحمد بابا التمبوكتي، والمختار الجكني، وعبد القادر الشنقيطي، ومحمد الصغير الشنقيطي، ومحمد النابغة الشنقيطي، ومحمد فال الديماني، وعبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي... إلخ. أما ما طبع للشيخ ماء العينين ولأفراد أسرته، فهم أكثر من أن يعد أو أن يستعرض هنا، وللحديث بقية.