يعلم كل منا تحريم الإسراف بنصوص الوحيَيْن (الكتاب والسُّنة) في كل شأن من شؤون الحياة، وأن الله سبحانه وتعالى أمر بالاعتدال في كل شيء. والعاقل الحصيف يدرك بالفطرة هذا الأمر، ويعرفه حق المعرفة. وقد جعل الله لكل شيء مقدارًا، يقف عنده، ولا يتجاوزه. يقول الله - عز وجل -: { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} سورة الأعراف(31). وقد نهى الله - عز وجل - عن الإسراف في كل شيء، وذلك يشمل جميع الأمور. ويغلب على تصور الناس ومفهومهم أن الإسراف يكون في شراء ما يزيد على حاجة الإنسان من مأكل وملبس ومتاع، ولكن الإسراف يتعدى هذا الأمر، ويشمل صورًا كثيرة، منها - على سبيل المثال - الإسراف في الأثاث؛ إذ يقوم بعض الأشخاص بتغيير أثاث البيت أو المكتب كل سنة، أو عند قدوم العيد، أو حصول مناسبة معينة، كالظفر بصفقة مالية، أو إعلان المحال التجارية وصول بضاعة جديدة بمناسبة العام الجديد، أو التصفية والجرد بمناسبة انتهاء السنة المالية.. ومن الإسراف أيضًا شراء كميات زائدة من المواد الغذائية عند قدوم شهر رمضان المبارك، أو في أوقات أخرى، يستهلك جزءًا بسيط منها، ثم تمكث هذه المواد أكثر من فترة صلاحيتها، قلَّت أو كثرت؛ فيتم أو التخلص منها بلا فائدة. ومنها كذلك تغيير السيارة عند وصول موديلات جديدة، أو تغيير إكسسوارات السيارة، وتغيير الجوالات بين فترة وأخرى، وتغيير إكسسوارات الجوالات. ومن الإسراف الذي تلحظه أيضًا قيام بعض الشباب باستخدام أنواع مختلفة من الأقلام والكبكات والأحذية والملابس، فيقوم الشاب في كل يوم بلبس شيء مختلف عما في اليوم الأول، ويكاد يكون ذلك بصفة يومية. وبهذا وغيره يكون الإسراف بوجه عام محرَّمًا أشد التحريم.
والإسراف في إنفاق المال بشراء ما لا يحتاج إليه، أو شراء ما يزيد على الحاجة، وهو ما ينصرف إليه فهم الكثير من الناس بأنه هو الأمر المحرم فحسب، بينما الإسراف حقيقة يشمل أمورًا كثيرة، فمنه الإسراف في الكلام، فلا يطلق المرء لسانه بالخوض في فضول الكلام، كما أن الأمور المباحة لا يجوز الإسراف فيها، بل نهى الشارع الحكيم عن الإسراف في العبادة، بل يعبد الله وفق ما شرع، ويقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكلف نفسه ما لا تطيق. ومن صور الإسراف الإسراف في الوضوء، فلا يغسل المتوضئ أيًّا من أعضاء الوضوء بأكثر من ثلاث، ولا تزيد كمية ماء الوضوء عن مد، ولا تزيد كمية ماء الغسل من الجنابة أو ليوم الجمعة أو غيرهما عن صاع، لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما في أحاديثه عليه الصلاة والسلام، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص: «لا تسرف ولو كنت على نهار جار».
ويتأكد النهي عن الإسراف في الماء في وقتنا الحاضر؛ إذ إن العالم بعامة سيشهد مستقبلاً شحًّا في المياه، حسب تقارير الخبراء المختصين، وهذا سيكون في الدول العربية أكثر من دول العالم الأخرى.
ومن الإسراف أيضًا ما أشرنا إليه آنفًا من شراء مواد غذائية كثيرة، يتم انتهاء صلاحيتها فيما بعد، وشراء ملابس وسيارات وجوالات، وغيرها.
ومما لا شك فيه أن مما يعد من أشد الأمور تحريمًا الإسراف في إعداد الطعام الزائد عن الحاجة، وأكل جزء بسيط منه، ثم رمى ما تبقى من الطعام في حاويات القمامة -أكرمكم الله، وأكرم نعمته - !! وذلك من الظواهر السلبية التي تعد امتهانا للنعمة التي أنعم الله بها علينا، وتتنافى مع الشكر لله على نعمته. وبهذا يتم تعريضها إلى أن تطأها أقدام المارة، أو إلى الدهس بإطارات السيارات، وهذا إهانة لهذه النعمة العظيمة التي مَنّ الله علينا بها، وحُرم منها أبناء كثير من دول أخرى، ومنها بعض دول الجوار، الذين يتضورون جوعًا، ويتمنون كسرة خبز يسدون بها رمقهم. وواجبنا أن نشكر الله - عز وجل - على أن وهبنا هذه النعم في هذا البلد الذي تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقًا من لدن رب العباد. ولقد علمنا وقرأنا عن طريق الكتب والوسائل الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي ما حدث لبعض البلدان، ومنها بعض دور الجوار، من المجاعة نتيجة الحروب، أو ضعف الحالة الاقتصادية، وقد حدث ذلك نتيجة لعدم احترام أبناء بعض الدول للنعمة التي أنعم الله بها عليهم، وقد كان أهل تلك البلاد أغنياء وأثرياء، فلما كفروا بالنعمة، ولم يشكروا الله على نعمته عليهم، وأهانوا نعم الله، وبطروا، عاقبهم الله - عز وجل -؛ فأصيبوا بالحاجة والمجاعة بشكل لافت للنظر. ولا شك أن هذا عقوبة لمن كفر بنعمة الله - عز وجل -، ونخشى على أنفسنا من مثل ذلك، وهذا مصداق قول الله - عز وجل -: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} سورة النحل(112). والواجب أن يكون لدى كل فرد من أفراد المجتمع الوعي بأهمية الحفاظ على النعمة، هذا في المقام الأول، ثم إن على كل من تكون لديه حفلة أو مناسبة استخدام طريقة البوفيه، وعدم إعداد ما يزيد على قدر الحاجة من الطعام في الولائم والمناسبات، الصغيرة والكبيرة؛ لتتم الاستفادة من الفائض من الطعام، مع التركيز على عدم إعداد ما يزيد على الحاجة بحجة أن الضيف إذا لم تعد له مائدة بالحجم الذي يريده يعتبر ذلك تقليلاً من شأنه، وأن المضيف لم يقم بحق الضيف، كما أنه مع استخدام طريقة البوفيه تُحفظ النعمة، وقد أنعم الله علينا بالمال، وبالطيبات من الطعام؛ فكل بيت مليء بخيرات الله - عز وجل،وله الشكر وله الحمد -. فالضيف لا يلبي دعوة مضيفه من أجل أنه جائع أو يريد الأكل، وإنما يأتي تقديرًا للمضيف الذي قدره ودعاه، فيتم أكل جزء يسير من الطعام، ويبقى الأغلب منه. ثم إن البوفيه يلزم أن يكون أيضًا بقدر الحاجة، فلا تتم المبالغة في المعروض من الطعام، الذي يحوي قدرًا كبيرًا وأصنافًا عديدة من الطعام، ويقام غالبًا في الفنادق، وجهات العمل، وفي قاعات وقصور الحفلات، بل في الاستراحات، وتقوم المطاعم بتقديم الطعام للزبائن، ويطلب المضيف عددًا كبيرًا من الوجبات، حسب عدد الأشخاص الذين تمت دعوتهم، ولا يحضر إلا القليل منهم، ويتكبد المضيف ثمن الطعام بكامله، وهذا يعد من الإسراف أيضًا في الطعام، ويعد إسرافًا من ناحية تحمُّل المضيف نفقات إضافية مقابل الوجبات الزائدة.
كما رأينا أن المطاعم التي يتناول الزبائن الأكل فيها تلقي بالمتبقي من الطعام في الحاويات، والزبون لا يكلف نفسه باستلام الكمية المتبقية من الطعام لتناولها في وقت آخر، أو إهدائها لمن هم بحاجة إليها. وقد سلكت بعض المطاعم طريقة حسنة بوضع بقية الطعام في قوالب من القصدير، وتغطيتها، وتقديمها بشكل مناسب للزبون. وقد انتشر مقطع عبر أجهزة التواصل الاجتماعي، ظهر فيه أحد الأشخاص الذي تناول الطعام في أحد المطاعم، ثم أخذ الفائض منه، وذهب به إلى بعض العمال في إحدى البنايات، ففرحوا واجتمعوا عليه لتناوله. ومع دعوتنا لاستخدام البوفيه فإنه لا بد أن تتم إعادة النظر في هذا الأمر؛ إذ إن إقامة بوفيه في الفنادق والقاعات الكبيرة تكلف صاحب الشأن مبالغ باهظة من الطعام؛ فكل بيت مليء بخيرات الله - عز وجل - وبالطيبات من الطعام، ولله الحمد والشكر، فيجب إلغاء البوفيهات، وأن تكون حفلات الطعام على البساطة في الأكل والتقليل منه بتقديمه في أوعية صغيرة، بدلاً من الصحون الكبيرة التي تمتلئ بالكميات الكبيرة من الأكل، ولا يجلس على كل صحن منها إلا شخصان أو ثلاثة أو أربعة أشخاص. ولو كان شخص عنده مناسبة ما، كالأزواج مثلاً، أو قدوم قريب أو صديق من خارج البلد، أو حصول موظف ما على ترقية، وغير ذلك، فالغالب أنها تقام في الليل، وهو أمر غير مناسب؛ إذ إن الأكل في الليل يكون بعده النوم، وقد تناول الشخص الأطعمة الدسمة؛ ما يكون سببًا لحدوث مشاكل صحية معروفة.
وليس وجود جمعيات البر التي تستقبل الفائض بحجة؛ فالكثير لا يكلف نفسه بالاتصال على جمعية البر، التي تقوم مشكورة بالوصول إلى المقر الموجود به فائض الطعام؛ فكل همه أن تنتهي المناسبة، ثم يذهب إلى مبتغاه. وجمعيات البر لديها الشيء الكثير من الطعام، يفوق حاجة المحتاجين له.
وأعود وأكرر القول بأن الترشيد والتوازن في كل الأمور مطلب حتمي، ولا بد أن يتكاتف أفراد المجتمع على تحقيق ذلك، ولا بد أن نعي تمامًا أن العمل به له كثير من الفوائد، من أهمها طاعة الله - عز وجل - والانقياد لأوامره، ومنها الاقتصاد في الأمور، وتوفير الأموال التي تذهب بدون وجه حق.
وأود أن أشير هنا إلى أنه توجد صناديق خشبية بجوار كثير من المساجد، يتم فيها وضع بقايا الخبز، وهذا أمر جميل، يعين على إكرام هذه النعمة.
كما يجب على كبار الشخصيات ووجهاء المجتمع ورجال الأعمال - وإن كانوا مقتدرين - أن يتمثلوا القدوة لغيرهم من ذوي الدخل المحدود، الذين يرهقون أنفسهم في تحمل الديون من أجل الظهور بمظهر ذوي الإمكانيات المادية، و{ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (286) سورة البقرة.
والله ولي التوفيق.