محمد آل الشيخ
خلافنا مع بعض اللبنانيين ليس خلافا سياسيا فقط نتج عن اختطاف العدو الفارسي للدولة اللبنانية، وإنما هو خلاف ثقافي مع غالبية مثقفيهم وإعلاميهم، وتوجهاتهم الإيديولوجية. وهو لا ينعكس على المثقف والسياسي اللبناني فحسب، وإنما يمتد إلى أغلبية مثقفي (عرب دول الشمال)، التي تُعتبر لبنان عاصمتهم الثقافية. أغلب دول الشمال العربي، فيما عدا الأردن، يرون في أنفسهم تميزا تاريخيا، وبالتالي حضاريا، على دول الجزيرة العربية،. هذه النظرة الدونية، وهي بالمناسبة عنصرية محضة، تجلت في كتابات رعيل من الكتاب والمثقفين، وكذلك الإعلاميين فيما قبل ثمانينيات العقد الماضي بشكل واضح وجلي. فقد كانوا يفرقون في تعابيرهم بين (عرب الشمال وعرب الجنوب)، أو (عرب الصحراء وعرب الماء)، أو(عرب المحور وعرب الأطراف)؛ فيعتبرون أنفسهم، إضافة إلى المصريين، العرب، المحوريين، بينما نحن العرب التابعين؛ ودائما ما كانوا يظهرون أنهم الذين علمونا، وحضّرونا، وأنقذونا من التخلف، وصنعوا ثقافتنا التعليمية، وكيف نقرأ وكيف نكتب، ودائما ما كنا نقر- للأسف- بهذه (المنّة) غير الدقيقة في تفاصيلها في أدبياتهم، وبالذات في أدبيات اليساريين العروبيين ومنهم مثلا الشاعر «نزار قباني»، الذي كان يمثل هذه النظرة (الطاووسية) الفارغة خير تمثيل؛ مع اعترافي أنه أحد أهم الشعراء العرب في العصر الحديث.
وكان كثير من مثقفينا، وبعض كبرائنا، يقرون لهم بهذه الفوقية، ويتعاملون معهم بشيء من الإكبار والإقرار ضمنا بهذه الفوقية، وأنهم أرقى مدنية وتحضرا منا؛ وقد استثمر بعضهم هذه الطبقية الثقافية، فاستغلوها في الإثراء، حتى أن أحدهم قدم إلى المملكة بتأشيرة (مدرس تربية بدنية)، ومارس التجارة وأصبح من أصحاب المليارات، وأغلب عرب الشمال هؤلاء من (اللبنانيين)، وكثير منا يعرفهم ويشار إليهم بالبنان ويسمونهم بأسمائهم.
ربما أن لعرب الشمال فضلا في التعليم الأولي، وربما - أيضا - في بدايات التعليم الأكاديمي، أما في نهضتنا الحقيقية، والتي بدأت منذ أواسط السبعينيات من القرن المنصرم، فقد ساهم فيها وخطط لها وصممها، شباب سعوديون تلقوا تعليمهم في الغرب، وفي أمريكا بالذات، ونفذتها شركات آسيوية أو أوروبية، وليست عربية؛ وهذا ما ينطبق - أيضا - على دول الخليج الأخرى؛ ولعل من فضل الله جل وعلا علينا عداوة «جمال عبدالناصر» وبقية العرب الذين يدورون في فلكه، ممن كانوا يسمون أنفسهم بالعرب (التقدميين)، بينما يسموننا العرب (الرجعيين)، فقد اضطرتنا هذه العداوة (للقفز) إلى حيث العلم الحقيقي، وبالذات إلى أمريكا وأوروبا، فكانت هذه (القفزة) هي التي أوصلتنا إلى منبع الحضارة والتفوق المعاصر، وخلصت كوادرنا الإدارية، والفنية، مدنية كانت أو عسكرية، من فيروس (الانقلابات) التي كان يصدرها عرب الشمال إلى بقية الدول العربية، والتي كانت هي السبب الأول الذي جعلها دولا متخلفة، هشة، لم تعرف المدنية والتحضر والتنمية إلا في قشرتها ومظاهرها الخارجية، بينما أن بُنيتها التحتية في كافة المجالات، كانت في منتهى التخلف، الأمر الذي جعل ما يُسمى عواصف (الربيع العربي) تلفها أعاصيرها، وتنسف استقرارها، بينما تكسرت عند حدود الدول التي كانوا يسمونها سابقا (الدول الرجعية)، والسبب الموضوعي أنها (قفزت) إلى منابع الثقافة الغربية، وتعلمت أغلب نخبها الإدارية من مصدر الحضارة؛ وليس صحيحا ما يزعمه بعض مثقفي عرب الشمال وإعلامييهم أن النفط كان السبب؛ فالنفط كان، وبكميات ضخمة، في العراق، وكذلك ليبيا التي انتهجت المسلك القومي اليساري، المسيطر آنذاك، وها هي تلك الدولتان تئن تحت وطأة تفتت اللحمة الوطنية بين مكوناتها، وكأن تلك المكونات تعاني من الأمية والهمجية وليس التخلف فحسب؛ فأغلب العراقيين والليبيين المتميزين هاجروا وتعلموا في الغرب، ثم استقروا هناك، هربا من (تقدمية) تلك الحكومات العسكرية، التي كانت ترى نفسها أنها الأكثر مدنية، فإذا هم في قاع القاع من التخلف.
أحد المتبقين من جيل هؤلاء، وقد بلغ من العمر عتيا، سياسي لبناني يساري اسمه «نجاح واكيم»، (استفزعت) به قناة (المنار) التابعة لحزب الله اللبناني، ليشد أزرها في الهجوم علينا وهجائنا، فظهر وكأنه جاء بلغته وعباراته واستشهاداته، ومنطقه ومنطلقاته، من المقابر المهجورة، ليعيد لغة ومصطلحات تلك الحقبة العروبية اليسارية الفاشلة؛ غير أن الحقيقة التي أثبتها الواقع، ترسمها أية مقارنة، ولو كانت سطحية، فيما أنجزته دول الجنوب، وما يعاني منه الآن دول الشمال العربي من فشل في كافة المجالات، فأين هي تلك الثقافة (التقدمية) المتفوقة في دول الشمال التقدمية؟
إلى اللقاء.