محمد آل الشيخ
هل ثمة أمل لما يعرف بحركات (الإسلام الجهادي) أن تنتصر، وتكوِّن، أو ترث دولة قائمة؟..
الإسلام هو أولاً (دين)، وعقيدة بين الإنسان وربه جل وعلا، وليس مذهباً سياسياً، وإن عرف الإسلام المنحى السياسي، فلأنه مكمل للدين والعبادة، وليس ابتداءً مسلكاً سياسياً يدور مع الدنيا ومصالحها حيث دارت.. وأول حركة في تاريخ الإسلام وظفته كثورة سياسية هي حركة الخوارج في القرن الهجري الأول، ثم انشقت هذه الحركة إلى عدة حركات تفرعت عنها، واتخذت السياسة ديدناً أولياً لها؛ لكن موقف أغلبية المسلمين من هذه الحركات كان موقفاً سلبياً ومناوئاً لثوريتها، على اعتبار أنها كانت سبباً لإثارة الفتن والقلاقل المجتمعية وشق عصا الطاعة وهتك الأمن، لتنتهي إلى صراعات دموية وفتك وهتك أعراض ودمار وخراب للمجتمعات. وقد وردت كثير من الأحاديث على لسان الرسول -صلى الله عليه وسلم- تُحذر من الانشقاق والتمرد و(الخروج) على السلطة، وسموا أصحابها (خوارج)، وتصفهم بأوصاف منبوذة اجتماعياً، وتعد من انشق بالعقاب الشديد في الدنيا، وكذلك في الآخرة.. ومع ذلك عرفت كثير من فترات تاريخ المسلمين مثل هذه الانشقاقات السياسية التي تذرعت بالدين ونصرته، وأخفت طموحاتها السياسية تحت عباءته، إلا أنها لا تكاد تظهر ويستعر لهيبها، وينتشر أثرها، حتى تخمد وتتلاشى وتندثر.
ما يُسمى في العصر الحديث (حركات الإسلام السياسي) هي في التحليل الموضوعي امتداد لما يسمى (إسلام الخوارج)، خاصة وأنها اتخذت صفة التمرد والخروج على الدول الإسلامية المستقرة، واعتبارها (دولاً كافرة)، ليصبح الخروج عليها، ومحاربتها، من مقتضيات نصرة الدين وتمكينه وليس الدنيا. ومثل هذه الحجة هي ذاتها التي رفعها (الخوارج الأُول) في القرن الأول، حينما رفعوا شعار (لا حكم إلا لله)، متخذين الدين ذريعة لثورتهم، وأن تمردهم جاء من منطلقات ودوافع دينية، وهي ذات الحجة التي استخدمتها (القاعدة)، ورحمها الذي خرجت منه (حركة السروريين)، فهي في خطابها ومبرراتها محاكاة لنظريات الخوارج القدامى السياسية؛ كما أنها كذلك استوحت تنظيماتها من جماعة الإخوان، إلا أن الحركة السرورية أضافت إلى ثقافة الإخوان البعد السلفي الذي كان ثابتاً من ثوابت التوجهات الدينية في المملكة، ومزجت الفكرتين ببعضهما، لتؤسس (الحركة السرورية السلفية) التي هي اليوم من أقوى الحركات السياسية المتأسلمة انتشاراً ونفوذاً في المملكة والخليج وكذلك التوجهات السلفية في مصر وشمال إفريقيا، وينتمي إليها، وإن لم يجاهروا بذلك، كثير ممن يسمون أنفسهم بالدعاة خطباء الجُمع.
هناك ثلاث حركات في العصر الحديث نجحت بالفعل في تكوين (دولة) متأسلمة وأصبح لها وجود على الأرض، إلا أنها فشلت ولم تستطع الاستمرار.
- أول هذه الحركات الثلاث: (حركة طالبان) في أفغانستان فقد قامت وبالفعل شكلت دولة، واتخذت من (كابل) عاصمة لها؛ لكنها فشلت في التحرر من أغلال الماضي الذي استوردت مفاهيمه من تلافيف التراث والموروث الإسلامي، وسلكت سبيل العنف مسلكاً في مواجهة الآخر، نأت بنفسها عن عوامل الاستقرار، ودعمت (منظمة القاعدة) علناً في عملياتها الإرهابية على اعتبار أن ما تقوم به (جهاد) مشروع في الإسلام، لا تملك إلا مناصرته، ما جعل العالم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، يشن عليها في عقر دارها، حرباً ضروساً، مزقتها، وجعلتها تعود إلى جبال تورا بورا ومغاراتها،، وتمارس حرب العصابات من هناك؛ وهي بذلك فشلت في التعامل مع العصر، فانتهت إلى العيش في جبال أفغانستان وأريافها لا في مناطقها الحضرية، فتحولت كما بدأت فصائل متناثرة هنا وهناك، دونما دولة.
- الحركة الثانية: هي جماعة الإخوان المتأسلمين، التي استوردت من الغرب (الديمقراطية)، وامتطت صناديق الانتخاب ورفعت شعار (الإسلام هو الحل)، وهو ذات الشعار الذي رفعه الخوارج في القرن الأول؛ غير أن غياب (أجندة) سياسية واقتصادية تستطيع الجماعة من خلالها تقديم حلول معاصرة وفعالة للقضية المصرية أدى إلى فشلها، فثار الشعب المصري على حكومة الإخوان ثورة شعبية عارمة، فتدخل الجيش، وأسقط الإخوان، واستبدلها بحكومة مدنية، تنأى بنفسها ودستورها ومقتضياته، عن البعد (الكهنوتي) الذي صبغ حكومة الإخوان ومنطلقاتهم السياسية.
- أما التجربة الثالثة، والتي ما تزال قائمة، ولكنها حتما آيلة للسقوط، فهي: (حركة داعش)، فقد تحدت العالم، واعتمدت (الجهاد) العنفي حلاً سياسياً، لتكريس وجود دولتها التي سمتها (خلافة)، مؤصلة اسمها من بعض المرويات الموروثة في التراث الإسلامي.. سقوط (داعش) واندثارها هو حتمية قطعية وإن طال الزمن، وها هي بذور الاندثار تهب بها الرياح في أرجاء جغرافيا سيطرتها ونفوذها، مثبتة للمرة الثالثة أن الإسلام السياسي، الذي صنع دولاً في الماضي، يستحيل عليه في العصر الحديث أن يقيم دولاً تستمد منطقها من العصور الغابرة. ليعود دين الإسلام ديناً وعلاقة بين المسلم وربه؛ أما السياسة فهي دائماً وأبداً، تدور مع المصالح الدنيوية، حيث دارت، فليس في السياسة ثوابت إلا المصلحة ولا شيئ غير المصلحة.
إلى اللقاء،،،