مازلت تلهج بالتاريخ تكتبه
حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا
حُجِبْتَ عنا وما الدنيا بمظهرة
شخصاً وإن جلَّ إلا عاد محجوبا
كذلك الموت لا يبقي على أحد
مدى الليالي من الأحباب محبوبا
جُبل الكثير من الأدباء والكتاب على تأبين ورثاء من رحل عنهم إلى الدار الباقية من والدين وإخوة وأقارب، ومن لهم دور مميز في محيطهم الأسري والاجتماعي: دَوْر بذلٍ وإحسان، وأعمال مشرفة، أو موروث علم وأدب ينتفع به، أمثال الأستاذ الدكتور الفاضل عبد الله بن صالح العثيمين أمين عام جائزة الملك فيصل العالمية لأكثر من ثلاثة عقود الذي استوفى نصيبه ورزقه كاملاً من أيام الدنيا، بعد معاناة مع المرض تاركاً أثراً طيباً وذكراً حسناً، وذلك يوم الثلاثاء 12/7/ 1437هـ وأُديت صلاة الميت عليه بعد صلاة عصر يوم الأربعاء 12/7/ 1437هـ بجامع الراجحي بمدينة الرياض، وقد اكتظ المسجد بجموع غفيرة، ثم تبعه إلى مراقد الراحلين بمقبرة النسيم خلقٌ كثير، داعين المولى له بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يأذن الله بنهوض الخلائق من مضاجعهم ليوم الحساب.
وكان لرحيله أثر عميق من الحزن في الأوساط العلمية والأدبية لما كان يتمتع به من سماحة خلق كريم، وتواضع جمٍّ، وسعة علم وثقافة رحبة الآفاق، فحبه متربع على قلوب الكثير من أسرته ومعارفه..
ولقد ولد في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم عام 1355هـ وعندما بلغ عمره السادسة ألحقه والده بإحدى الكتَّاب لتعلم الكتابة وحفظ القرآن، فبدأت عليه ملامح الذكاء وسرعة الحفظ مما سهل عليه تخطي جميع المراحل الدراسية بكل ثقة وتفوق، وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية بعنيزة سافر إلى الحجاز والتحق بالمعهد السعودي بمكة المكرمة ونال الشهادة عام 1378هـ ونال درجة البكالوريوس من جامعة الملك سعود بالرياض عام 1382هـ ثم درس الماجستير، وبعد ذلك ابتعثته الجامعة إلى المملكة المتحدة ونال شهادة الدكتوراة عام 1393هـ ، ثم استمر في تَسَنّم المناصب المشرفة حيث عُين عضواً في هيئة التدريس في قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة الملك سعود ،وتدرج حتى حصل على درجة الأستاذية عام 1402هـ وتولى رئاسة قسم التاريخ لمدة عامين، بعد ذلك عمل عضواً في عدد من المجالس واللجان..ثم أميناً عاماً لجائزة الملك فيصل العالمية واشتغل بهذا المنصب منذ عام 1407هـ إلى وفاته ـ رحمه الله ـ كما اختير لعضوية مجلس الشورى عام 1420هـ - 1430هـ
وقد نال جائزة الملك سلمان بن عبد العزيز التقديرية للرواد في تاريخ الجزيرة العربية عام 1426هـ لأعماله الجليلة ومؤلفاته القيمة من بينها إحدى رسائله عن حياة وسيرة العالم الجليل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولا غرو فهذا يدل على حسن اختياره وصفاء سريرته وعمقها عِلماً خالصاً من الشوائب..
وعلى أي حال فإن الدكتور عبدالله يُعَدُّ دائرة معارف علماً وأدباً وتاريخاً.. فهو ينهل من أنهر صافية المورد تُصفق بالرّحِيق السَّلْسَلِ، ولقد أفاض الكثير من الكتاب والأدباء الافاضل في الثناء عليه بما هو أهله ـ رحمه الله ـ ولم يتركوا لقلمي المتواضع مجالاً جديداً يُذكر.. فهو رجل كريم محبوب لدى الجميع عزّ علينا وعلى جميع أحبته غيابه وبعده عن نواظرهم بعداً لا يرجى إيابه:
حبيب عن الأحباب شطت به النوى
وأي حبيب ما أتى دونه البُعدُ !
وكانت خميسية الشيخ حمد بن محمد الجاسر - آنذاك - ملتقى ثقافياً تجمعنا به، ومع من حضر من عُشَّاق الأدب والثقافة. فنسعد بالحديث مع الدكتور «ابوصالح» وما يجري في تلك الجلسات من نقاش هادف.. ومن تبادل طرائف ومطارحات شعرية ـ أحياناً ـ ولا تخلو من مشاركات البعض، فالحديث معه يأسر السامع قال عمر بن عبد العزيز (إن في المحادثة تلقيحاً للعقل، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهم وتنقيحاً للأدب) انتهى. وقد صدق رضي الله عنه، وما أصدق ما قيل:
ومابقيت من اللذات إلا
محادثة الرجال ذوي العقول
وكنا نلتقي به في مناسبات أخرى مثل جائزة الملك فيصل العالمية برعاية صاحب السمو الملكي الأمير الكريم خالد الفيصل - ابو بندر - الذي يقدره كل التقدير ويثني عليه ثناءً عاطراً هو أهل له..
وكان ـ يرحمه الله ـ في طليعة المتخصصين في تاريخ الدولة السعودية، وفي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فهو قامة عالية في المحافل الثقافية العربية وتلذّ الأسماع لإنشاده الشَعري، وقد جادت أقلام محبيه ومعارفه بالثناء والترحم عليه، وعدّ بعض مآثره الحسان، ولنا معه بعض الذكريات الجميلة لا يتسع المجال لذكرها خشية الإطالة ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وإخوته وأبنائه وبناته وعقيلته ومحبيه الصبر والسلوان.
حريملاء - 16/7/1437هـ