أفل نجم علم من أعلام المعرفة والثقافة والأدب الذين نذروا أنفسهم لخدمة بلادهم والسعي لتقديم ما أمكن للرقي بها والحفاظ على تاريخها المجيد، إنه الدكتور الأديب الشاعر عبدالله بن صالح العثيمين أحد أعلام المعرفة والثقافة الذي أمضى حياته في خدمة دينه ووطنه منافحاً بقلمه وبفكره المستنير وبثقافته الواسعة، تشرفت بمعرفته منذ سبعة عشر عاماً مضت، وجمعتني به مجالس علم ومعرفة وأصبحت منادماً له، واستفدت من علمه ومعرفته في التاريخ، قابلته لأول مرة في مجلس صديقي ابن العم أبو فهد العثيمين ورأيت فيه التواضع الجم والثقافة الشاملة وأدب الحوار، كنت في تلك الفترة شرعت في تأليف كتاب «حقائق ووثائق من المذنب» فأعجب بالعنوان وشجعني على إكماله وأشار إلي بالتأني وجمع أكبر عدد ممكن من الوثائق التي تضم الفوائد العلمية، ومن تلك المقابلة وأنا أحرص على رؤيته كلما سنحت الفرصة والاستفادة من علمه ومعرفته فهو من أعلام الثقافة الذين يتمتعون بسعة الأفق والتواضع الجم والأدب الرفيع، وخلال السنوات الماضية كنت أجتمع به في مجلس صديق الجميع أفو فهد العثيمين ومجلس البسام، قابلته مرات عديدة وكنت في كل مقابلاتي أخرج بفوائد لا أجدها عند غيره فهو حريص كل الحرص على إدارة الحوار بطريقة علمية فأصبحت من المنادمين له، بل أحد طلابه الذين نهلوا من علمه الغزير، خصوصاً ما يتعلق بتاريخ نجد والدعوة السلفية، عرف الدكتور عبدالله العثيمين بدماثة أخلاقه وسمو نفسه ووفائه فرغم مشاغله وارتباطه بمؤلفاته وأعماله المناطة به من قِبل الدولة إلا أنه حريص على التواصل الاجتماعي ما أمكنه ذلك، وإن المتتبع لسيرته وعطائه الفكري يدرك محبته لوطنه فقد عرف بنزاهته وكفاءته، حيث جاهد بقلمه ونافح عن وطنه فكتب في التاريخ والاقتصاد والتعليم وقضايا الأمة الإسلامية وهو قامة عالية في المحافل الداخلية والخارجية ورغم أنه تبوأ مكانة رفيعة بين الشخصيات الأدبية، إلا أن ذلك لم يزده إلا تواضعاً وأدباً وتوهجاً، زرته ذات يوم في منزله بالرياض فاستقبلني بالترحيب وأجلسني إلى جانبه وقال لي أنا الليلة على موعد مع سمو الأمير خالد الفيصل بأمور تتعلق بجائزة الملك فيصل، حيث كان أميناً لها، وطلب مني البقاء لحين عودته فاعتذرت لانشغالي بوالدي الذي كان يمر بظروف صحية ألزمته الفراش، فقدم لي الدعوة لحضور حفل الجائزة ولم تأت الفرصة المناسبة لكثرة مشاغلي، وفي سنة 1425هـ كنت في الرياضلإجراء مقابلات شخصية مع أحد الرواة، فلما فرغت من المهمة التي قدمت من أجلها زرته في مكتبه في مقر جائزة الملك فيصل فقابلني بالترحيب ورغم انشغاله في الإعداد للجائزة إلا أنه أعطاني من وقته واهتمامه ما يعكس تواضعه وحسن ضيافته وكرم أخلاقه، وحينما هممت بالانصراف أعطاني بطاقة دعوة لحضور حفل جائزة الملك فيصل السابع والعشرين لعام 1425هـ فشكرته وانصرفت، فلما حان موعد الجائزة توجهت للرياض ومعي بطاقة الدعوة التي كتب عليها اسمي ورقم المقعد فدخلت مقر الجائزة فلما رآني أقبل علي بابتسامته المعتادة وأخذني إلى مكاني الذي حجز لي، لازلت أذكر استقباله الحافل رغم انشغاله باستقبال كبار الضيوف من أمراء وعلماء فرغم أنه أمين الجائزة والمسؤول عن أهم مراحل الحفل إلا أنه أعطاني من وقته وأكرمني بترحيبه وأخذني بيدي وأجلسني في المكان المعد لي وودعني لاعتلاء منصة التتويج، وبعدها أصبح يهديني بطاقات الدعوة لحضور حفل الجائزة ومازلت محتفظاً بها لمحبتي له، كان الدكتور عبدالله العثيمين حريصاً كل الحرص على زيارة مدينة عنيزة وقضاء أطول وقت ممكن بين أهله وأصدقائه، فإذا أراد العودة إلى الرياض كان يمر بمدينة المذنب ويشرفني بزيارة قصيرة، وقد قدمت له دعوة رسمية فاستجاب وشرفني بحضوره وكان برفقته أبناء عمومته من العثيميين فأقمت له مأدبة تليق بمنزلته حضرها محافظ المذنب صالح المحيميد في مضافة ابن العم الوجيه صالح بن محمد المقبل ثم قمنا بجولة على معالم مدينة المذنب وطلب مني شرحاً مفصلاً عن تاريخ المذنب وأهم المعالم الأثرية فيه فكانت جولة علمية لا تنسى، وخلال تلك الجولة قمنا بزيارة لمتحف الشيخ عبدالله الفوزان في مزرعته حوطة معجل، فتجول الدكتور وصحبه الكرام في أرجاء المتحف فأبدى إعجابه بما رأى وأوصى بتشييد مقر له وبعد احتسائه فناجيل القهوة رحب به الفوزان وأهداه بندقية قديمة فقبلها الدكتور وكتب عليها اهداء متحف الفوزان وعبّر عن سروره بهذه الهدية لكونها رمزا من رموز الشجاعة ولها قيمة تاريخية، وقبل انصرافه شكر صاحب المتحف وودعنا متوجهاً إلى الرياض، وظل بعدها يسأل عن صحة الفوزان وأحواله وكان يحمّلني له السلام كلما قابلني، مضت على معرفتي بالفقيد سبعة عشر عاماً جمعتني به خلالها مقابلات عديدة، فقد تشرفت بمنادمته وسماع ما يحفظه من قصص وأشعار نقلها عن المعمرين الذين شاركوا في بناء الدولة الملك عبدالعزيز على مختلف أعمالهم التي قموها خدمة لدينهم ووطنهم، كما جمعتني به مناسبات ثقافية وأدبية، كان خفيف الظل دمث الأخلاق يجيد الحوار بطريقة راقية جمعتني به مجالس أدبية مفتوحة في ديوانية البسام وفي مضافة ابن العم أبو فهد العثيمين وفي مطلة حيث الهرم الأدبي عبدالرحمن البطحي الذي يأنس به ويحرص على تواجده، لقد كان الدكتور عبدالله العثيمين من الشخصيات الأدبية التي تشرفت بالاستزادة منها والنقل عنها وحظيت بتوجيهه إلى جانب أدبائنا أمثال الشيخ عبدالله بن خميس والدكتور الأديب حسن الهويمل والأستاذ الأديب عبدالرحمن البطحي والدكتور الأديب فايز بن موسى البدراني، فهو رمز من رموز الفكر المدركين لأهمية دعم الأدباء والباحثين وتشجيعهم حتى أصبحوا من القامات الثقافية المؤثرة، رحمك الله يا ابن عمي وأستاذي وصديقي رحلت عنا ونحن في أمس الحاجة إليك وإلى مجالسك المفيدة وثقافتك الأصيلة ومحبتك الصادقة ستظل مكانتك في قلوبنا واسمك محفوراً في ذاكرتنا مدى الحياة، وداعاً يا من أمضيت حياتك خادماً لوطنك منافحاً عن قضايا أمتك حريصاً على شؤونها وعلى مستقبلها الواعد وعلى جيلها الذي يرى فيك قدوة في إخلاصك المتناهي وتواضعك الجم وبعدك عن الاطراء والألقاب والمظاهر، سيفقدك العلم والمعرفة التي انضيت في طلبها رواحلك، ستظل نبراساً لنا وقدوة في كل محاسنك التي سنذكرها كلما حل ذكر الأدب والمعرفة والتواضع ومكارم الأخلاق، رحمك الله وأسكنك فسيح جناته.
خالد بن دحيم بن سعود الحسياني - باحث تاريخي من مدينة المذنب