ميسون أبو بكر
خرجت نسخ كثيرة لغادة السمان من الكاتبات، لكنها لا تشبهها وإن قلدنها، فأحرفها شديدة الوقع على أديم القلب، رشيقة الخطى دافئة الأنفاس، تخالها شعراً ممزوجاً بريق الغيمات، وعطراً قادماً من ياسمين دمشق تلك التي عاث بها الفاجر في الأرض.
جناحي نورس وشوقها كان يأخذها لمدينتها المشتهاة دمشق، كان صمتها ينسكب دموعاً من حبر حين تحنّ إلى شرفتها وماضي طفلة غادرت إلى أحلامها في مدينة الضباب وغربة الثلج، لكن الأمل كان معقوداً على العودة، كان هناك أحبة يلوّحون لها، وذكريات تسكن الأزقة، وبيتٌ له شرفات على الساحة المطلة على نافذتها، ومجد الأمويين، وبادية أسرت لها الريح بمن مروا منذ عصور، وياسمينة تعلقت أغصانها وعطرها على كتف البيت، لكن هل بقي بيت اليوم يا ترى!! وهل نجا الأحبة من بطش الأسد وأحزابه وأعوانه؟
وهل الياسمينة تنبت في أحواض الدم المهدور على تراب وطنها الذي روته أرواح الشهداء المغدور بهم!
البيت الذي غدا أطلالاً، والأرواح التي ذهبت لتلقى ربها، والأهل الذين فروا إلى شواطئ الموت لجوء الفارين من الموت إليه!!
فمن سيحمل إذا رسائل غادة السمان وإلى من سيسلمها؟ وأي الدروب يا ترى قد تحملها إلى دمشق وأخواتها مدن القلب المنتفضات من الجور والظلم والحرب والجبابرة الذين عاثوا بها فساداً؟؟
كيف ستنجو الذاكرة مما صنع بها الطغاة ودثروا حتى أماكن ولادتها واختبائها؟
تقول غادة في رسائلها إلى الياسمين:
حين أعود إلى دمشق.. سأخلع قميص العواصف والأمطار والصواعق وأرتدي ثوب الشمس.
وسيكون بوسعي أن أرى سماء مرصعة بالنجوم حتى آخر الأزلية واللانهايات».
لطالما حملت غادة وطنها هاجساً ولطالما حلمت أن تعود إليه مغادرة مدن الضباب، ومدن البرد والصقيع لتنعم بشمس دمشق، لكن؛ هل جاء غادة السمان نبأ الديار التي استحالت مقبرة لأهلها!! وسبيلاً لمرتزقة حزب الشيطان؟ وتلك الحرائق التي اشتعلت بالياسمينات!! والحرائر اللاتي فررن من الطغاة ولم ينجنّ!! والشمس التي لا يفرق رائيها بينها وبين قذائف الهاون وقنابل وصواريخ روسيا التي جاءت من أقصى الشرق تقتسم الكعكة!!
ما السبيل إلى الذكريات ومخابئها ودروبها استحالت أطلالاً من غير بشر!
كما بعثرت رسائل غادة حواسي التي كانت على مقربة من جنونها.. كذلك وجدتني ألملم شظايا ما تبقى من دمشق، وحين أتذكر دمشق واللاذقية وحلب وبقية المدن تؤلمني الخناجر التي تراشق بها قلبي، وما أرى اليوم من أخبار الموت على شاشات التلفاز.
دعوا غادة لأحلامها وذكرياتها وواحات دمشق التي احتفظت بها في ذاكرتها مراعٍ للخيول وصهيل الشعر والحرف، لا توقفوا أحلامها كي نستعين بحرفها على ومضاء واقع دمشق.
من أول البحر؛ غادة السمان
أرشف قهوتي وأنا جالسة في المقهى الباريسي، وأتذكر أنني في مثل هذا اليوم منذ أعوام أو لحظات أو قرون فارقتك يا دمشق...
يفيض شوقي كدمع في الحنجرة
إلى طفلة مشاكسة لا تزال تمشي تحت المطر إلى المدرسة في «شارع الصالحية» حتى الجسر الأبيض.
لا أرى زحام السياح خارج نافذة المقهى في ساحة النجمة الباريسية، بل أرى بوضوح بيوت الجيران وآل العرقتنجي، وموره لي، وقباني ووووو