اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
قبل أن يفيق العالم من صدمة صور سجناء النظام السوري، الذين قضوا جوعاً وظمأً، وإهمالاً طبيّاً، وإيذاءً جسدياً، وتعنيفاً نفسياً؛ حوَّلهم إلى أشباحٍ وهياكل بشرية، بعد أن أصبحوا جلداً على عظم؛ وامتهن كرامتهم الإنسانية بتجريدهم من ثيابهم، وأحياناً حتى ممّا يستر العورة، بل أسوأ من هذا كله،
إذ بلغت الوحشية والتجرد من الأخلاق، استغلال جلدهم لكتابة ألفاظ مسيئة عليه وشعارات مؤيدة للجلادين.. أقول، قبل أن يفيق العالم من صدمة الخزي والعار تلك، أفزعتنا وسائل الإعلام بمأساة أخرى، أكثر ترويعاً وأشد تأثيراً واستفزازاً، يوم نقلت إلينا صور الأطفال والنساء وكبار السن، المحاصرين في مضايا وغيرها من بلدات سورية، أيضاً بفعل نظام (الأسد).. الأسد الذي طالما استأسد على الضعفاء مستقوياً عليهم بقوى الطغيان والضلال، من الطامعين في استغلال المنطقة وتفريسها والتهامها، بعد تمزيقها وتقسيمها على أساس ولاءات طائفية مقيتة؛ من روسٍ وفرسٍ وأنصارهم، أشياع حزب الله وأنصار الله وأنصار الحق... إلخ. وهو قطعاً استئساد جبان بغيض، ذكَّرني بقول الشاعر عمران بن حطان، مع تحفظي على هذا الشاعر لأسباب تعرفونها:
أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامةٌ
ربداءٌ تجفل من صفير الصَّافر
هلاَّ برزت إلى غزالةٍ في الوغى
بل كان قلبك في جناحي طائر
وهو استقواء حوَّل البلاد إلى كرة لهب مشتعلة متدحرجة، التهمت كل شيءٍ تقريباً. ولم يكتفِ بذلك، بل أضاف إلى جراحهم التي أثخنتها براميله المتفجرة، مَنْع كل أسباب الحياة من مأكل ومشرب ودواءٍ عن الضعفاء، من النساء والأطفال والكهول في مضايا وغيرها، الذين لم تساعدهم صحتهم وظروفهم المادية والأسرية على التشرد والهيام في وجه الأرض، كما فعل أكثر من خمسة ملايين من السوريين، الذين تركوا كل شيء خلفهم، وفرُّوا طلباً للنجاة من ظلم الأسد (عليهم) (النعامة على غيرهم)، كما ورد في قول ابن حطان آنفاً.
وللأسف الشديد، كان بانتظار معظم من فرُّوا من بطش (الأسد) مصير لا يقل خطورة عمَّا اضطروا للمغادرة بسببه، فسُدَّت في وجههم حدود البلدان، وتقاذفتهم الأمواج والحيتان في عرض البحار، وأصبحوا ورقة ضغط سياسية لهذا الطرف أو ذاك، بعد أن انكشفت سوءة دعاية (حقوق الإنسان) التي صدَّعنا بها الغرب سنين عددا، وأقحم أنفه بسببها في كل تفاصيل حياتنا، ثم عندما حانت لحظة الاختبار الحقيقي، سقط سقوطاً مدوّياً، دفع بعض متطرفيه ينتشي بدهس مسلمة مسكينة معاقة، لا حول لها ولا قوة؛ ثم يشمت عليها، والعياذ بالله، فيدفعه غلّه وحقده لتوثيق لحظة سقوطه الأخلاقي (سيلفي) وسط الطريق، بجانب الضحية، على مرأى ومسمع أصحاب شعار حقوق الإنسان الرَّنان، دون أن يحرك أحد ساكناً. الأمر الذي يرسِّخ نظرية المؤامرة بشكل دامغ، يدفعني لاتهام كل من يستهجنها بـ (المتآمر) أيضاً، عن جهل أو قصد.
ولأن مرجعية الجلادين في العراق هي نفسها كما في سوريا، رأينا الحشد (الشعبي) يستخدم سياسة التجويع والقهر والتعذيب ذاتها، فيطبق الخناق على أطفال محافظات الأنبار ونسائها وكهولها، بعد أن احتال على عزل الشباب والرجال القادرين على القتال وصفّاهم على طريقته. ثم جلس يراقبهم وهم يذبلون من الجوع والمرض والظمأ، مع أنهم على ضفاف الفرات. وبلغ الحال حدّاً أخجل الشيطان، فأقدمت بعض النساء الحرائر على ربط أطفالهن إلى جسدهن، ثم رمين بنفسهن في جوف الفرات، بعد أن تفطّر كبدهن من رؤية أطفالهن وهم يذبلون بين أيديهن، دون أن يستطعن فعل شيء. واستصرخت بعضهن معتصماً، وقد أسمعن لو نادين حيّاً. ولو أن المعتصم رأى ما حدث لهن ولقومهن، لخرَّ صعقاً من هول ما يرى ويسمع، دون أن يسعفه الوقت لتحريك جيشه لنجدتهن.
والعجيب الغريب، المخزي المخجل حقاً، أنه بالمشاعر نفسها، والنشوة ذاتها التي انتابت داهس المرأة المسلمة المسكينة المعاقة في بلجيكا، وقف جندي (الحشد الشعبي) في العراق، متكئاً إلى آليته المدرعة في استرخاء منتشياً، يراقب مسنَّة الفلوجة وهي تصارع النمل على حبات أرز منثورة على الأرض لتخلصها من بين أرجله، علّها تستطيع إطعام أطفالها؛ في مشهد محزنٍ ذكَّرني بمسنَّة أفريقيا قبل بضعة سنوات، التي أبكت حتى سلطان الخير، طيَّب الله ثراه، فسيَّر القوافل لإغاثتها وإغاثة خمس دول هناك؛ بالطبع لا مجال هنا للمقارنة.
والمدهش فعلاً، أن هؤلاء الجلادين يتشدقون دوماً بمناصرة رسولنا الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. بل يتوهمون ألاَّ أحد في الدنيا غيرهم يتبع سنَّته ويهتدي بهديه وينصر عقيدته كما ينبغي غيرهم. وما علموا أن الله سبحانه أرسل رسوله رحمة للعالمين كافة. وقد بلغ من رحمته صلوات الله وسلامه عليه، أنه عندما تعرضت مكة المكرمة لقحطٍ شديدٍ،حتى اضطر الناس لأكل الميتة والعظام، وجاءه أبو سفيان بن حرب، وكان من غلاة أعداء الإسلام آنئذٍ، فخاطبه قائلاً: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وأن قومك هلكوا، فادعُ الله، فدعا عليه الصلاة والسلام، الله .. فسقط الغيث. وعندما كان يصلي الفجر مع المسلمين بالحديبية، نزل سبعون رجلاً من جبل التنعيم، وقيل ثمانون، يريدون الفتك بالمسلمين. فقبض عليهم جميعاً، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام، أعتقهم دون فدية أو عقاب. وإن شئتم لأتحفتكم بآلاف المواقف التي تقشعرّ لها الأبدان من العطف والرحمة والشفقة، التي هي ديدن حياته الشريفة كلها عليه الصلاة والسلام؛ فما شأنكم برجل أدّبه ربّه فأحسن تأديبه، وكان خلقه القرآن.
وكل من قرأ سيرته الشريفة العطرة الزكية الطاهرة، يدرك أنه التحق بالرفيق الأعلى ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله. ولمّا احتضر، استعارت زوجته عائشة، السِّراج من إحدى جاراتها.
هذه هي سيرة الرسول الذي ينبغي الاقتداء به، والسير على هديه.. يعفو لوجه الله عمَّن يتربص به هو وأصحابه ينوي بهم شرَّاً، ويدعو ربَّه أن يرحم أعداءه، وينهى أصحابه عن ترويع طائر، ويأمر من أخذ فراخها بردِّها إليها، ويفارق الدنيا ودرعه مرهونة.. فأين أنتم يا قتلة الأطفال والنساء والكهول، بالحصار والجوع والمرض والذُّل والهوان وامتهان الكرامة، من هذه الرحمة المهداة للعالمين؟.
وأكاد أجزم أنني قرأت بحكم دراستي العلوم العسكرية، وتشريفي بالعمل في القوات العسكرية السعودية الباسلة، التي رفعت رأس العرب والمسلمين اليوم، وأدهشت العالمين بأدائها الرصين حتى في ميدان القتال نصرة للحق، قرأت كل ما حدث في الدنيا من حروب تقريباً، منذ أن طوّعت لأحد ابني آدم نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من النادمين، حتى اليوم. وصحيح.. رأيت فيها كثيراً من الدمار والدماء والقتل وحصار الأعداء (المقاتلين)، إضافة إلى كثير من الممارسات التي يستهجنها كل من ليس له صلة مباشرة بساحات القتال، وهذا شيء بدهي، فهي حرب على كل حال؛ إلا أنني لم أجد مثل هذا السقوط الأخلاقي المدوي في استهداف الضعفاء كما يحدث اليوم في سوريا والعراق.
واليوم، وأنا أختم مقالي هذا، أزكمت رائحة الفساد في العراق أنف الإعلام في كل وسائله العالمية، فلا حديث لها غيره، وعن سيطرة حزب (الدعوة) على السلطة واحتكار الثروة، منذ سقوط بغداد المريع، عام 1423هـ (2003 م). فتصدرت العراق قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم وفشلاً ذريعاً، للأسف الشديد، مع دول كالصومال وبنغلاديش وأفغانستان، مع أن شعار التغيير البرَّاق كان: الحرية والتنمية والعدل والمساواة الاجتماعية. ليس هذا تجنٍّ، بل حقيقة دامغة كالشمس في رابعة النهار، شهد عليها شاهد من أهلها، كما رأينا في اعتصامات السيد مقتدى الصدر وأتباعه داخل المنطقة الخضراء وعند بواباتها لأكثر من شهر، أمام آلات تصوير الإعلام العالمي، مطالبين بالإصلاح ومحاربة الفساد ومعاقبة المفسدين، بعد أن طفح الكيل.
ومع أنني أؤكد دائماً أن صدام حسين كان السبب الرئيسي في كل ما تعانيه المنطقة اليوم، خاصة في الخليج، من فوضى وإرهاب واقتتال، بسبب سياسته الحمقاء، إلا أن العراق كان على عهده جنَّة، مقارنة بما آل إليه الحال اليوم.. كان صدام عادلاً في ظلمه، ولم يعرف المجتمع في عهده هذا التصنيف الطائفي الإثني البغيض. فقد ضمَّت حكومته كل الطوائف والأعراق والإثنيات في البلاد. فكان طارق عزيز (المسيحي)، الرجل الثاني بعد صدام في أكثر من حكومة. وأتيحت فرص العمل للجميع على أساس المواطنة والكفاءة والأحقية حسب قانون الخدمة المدنية. فكنَّا نزور بغداد ويجتمع على المائدة حولنا كل فسيفساء العراق، في تناغم فريد. كما لم يكن صدام يرهن قرار البلاد ومصيرها لقوى أطماع خارجية، بل كان أحياناً كثيرة يسير عكس التيار، وكان صارماً يقيل الحكومة بكلمة ويكونها بالطريقة نفسها.. لا محاصصة ولا طائفية ولا عنصرية (ولا ترضيات)، كما يحدث اليوم. وكان بجانب هذا كله، أكثر رحمة من كل الذين تقاتلوا على السلطة بعده؛ ومن المفارقات العجيبة، أنهم جاؤوا إليه بحكم إعدام على القاضي (رؤوف) الذي حكم على صدام بالموت شنقاً للتصديق عليه، إلا أن صدام عفا عنه وسرّحه من السجن!.
أما أنتم أيها الغربيون، يا (حماة حقوق الإنسان)، كما تدَّعون، فقد أقمتم الدنيا ولم تقعدوها، عندما (قُتِلَ) المواطن الإيطالي جوليو ريجيني قبل أكثر من شهرين في مصر، في ظروف لم يعرف أحد حقيقتها بعد. وإن كنت أدين بشدَّة الاعتداء على أي إنسان، أيَّاً كان، بصرف النظر عن أي اختلاف في أية ناحية؛ وإن كنت أحزن فعلاً لخسارة هذا الشاب لحياته، لاسيما أنه يمَّم وجهه شطر أرض الكنانة طلباً للعلم، وما يمثله مثل هذا السلوك من سمعة لا نريدها لبلداننا العربية والإسلامية، التي نريدها حقاً ديار أمن وأمان، يسعدنا أن يقصدها الناس من كل مكان لتلقي العلوم كما كان حالها في سالف الأيام، بدلاً من أن نرسل نحن أبناءنا شرقاً وغرباً طلباً للعلم، فيتعرض بعضهم لتفرقة عنصرية مقيتة، ربما فقد البعض حياته بسببها، كما رأينا أكثر من حالة، للأسف الشديد؛ على شاكلة ما حدث لـ (ريجيني) هذا، مع فارق جوهري طبعاً في الدوافع.
وللأسف الشديد، ما حدث في محافظات الأنبار ومضايا وغيرها من البلدات في سوريا، يتكرر اليوم (نسخة طبق الأصل) في تعز، على أيدي الحوثيين وميليشيا علي صالح، الذي أثبت للأسف أيضاً أنه (رجل غير صالح)، وإلا لما طاوعته نفسه على التضحية بالبلاد وشعبها. بل على العكس تماماً، كان عليه أن يشعر بالامتنان والعرفان لهذا الشعب اليمني الذي صبر عليه لأكثر من ثلاثة عقود، فوَّض فيها كل أمره له، بعد الله.. أقول للأسف، حدث هذا لتعز بسبب انتماء الحوثيين للفكر الفارسي نفسه الذي أخرج العراق من المعادلة، ويحاول الآن جاهداً فعل الشيء ذاته في لبنان وسوريا واليمن؛ تشهد بهذا سفن الأسلحة التي تعلن الأمم المتحدة وقوات التحالف يومياً تقريباً عن ضبطها مهربة بشتى الوسائل لإذكاء النار، خاصة في اليمن. مع أن إيران تعلن على لسان أعلى سلطة فيها أنها تريد العيش في سلام مع جيرانها، ويذكرني هذا بقول الشاعر صالح عبد القدوس:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
كما أن نذر المصير نفسه تلوح أيضاً في ليبيا، التي بلغت فيها الفوضى حدَّاً منع (الحكومة) من دخول البلاد إلا بشق الأنفس.. وهو الفكر نفسه الذي جعل (داعش) تتمدّد في خمس وسبعين ولاية خارج دولة الخلافة المزعومة في العراق والشام، ومزَّق جسد مئات الأطفال الأبرياء في متنزهات لاهور بباكستان، وفجَّر المصلين في بيوت الله وهم بين يدي ربهم يعبدونه ويتبتلون إليه، ونافس الشيطان في المكر والخبث لإغراق المنطقة بالأسلحة والخمور والمخدرات وجرائم المعلومات وغسيل الأموال، وأفزع أوروبا، ودفع متطرفيها لدهس المسلمين الذين يقيمون بينهم بالسيارات عمداً؛ وغير هذا من ممارسات عبثية في دول (الخريف العربي)، كما أسميه دائماً؛ جعلت الكل يترك العمل ويحمل السلاح سعياً للسلطة، ليستأثر بالثروة فيتحكم في مصير العباد، وكأن الدولة (ضيعة) يملكها من غلب. ممّا جعل كثيراً من الشعوب المغلوبة على أمرها يترحمون على أيام الاستبداد، التي كانت في حدّها الأدنى تكفل للناس جميعاً الأمن والاستقرار.
فاتقوا الله، وارحموا الضعفاء يرحمكم، وأدُّوا الأمانة بحقها؛ واعلموا أنه ما من شيء مكرم عند الله أكثر من الروح، ولهذا كان من أزهقها بغير حق كأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها كأنما أحيا الناس جميعاً، لاسيما المؤمن الذي جعل الله حرمة دمه أعظم من حرمة الكعبة، وتوعَّد عزَّ وجل، قاتله متعمداً، بالخلود في جهنم، والغضب عليه ولعنه والعذاب العظيم، والعياذ بالله.
فيا ليت أولئك القتلة المستهترين المجرمين، الذين هم أبغض الناس إلى الله سبحانه وتعالى، يعلمون أن زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم. ولهذا كان أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء.. فعودوا إلى رشدكم، واتقوا الله في دماء الأبرياء وأرواحهم، تفوزوا وتسعدوا.