د. فيصل صفوق البشير المرشد
التحول هو التغيير للتكيف مع تبدل الظروف والمعطيات ومتطلبات الحياة. ومن لا يتحول سيفنى سواء كان ذلك دولة أو فردا. والتحول يشمل جميع أوجه الحياة، وطبعا أهمها هو تطور وتغير الأفكار. وهدف التحول الطبيعي هو التغيير من وضع إلى وضع أحسن. إذن نحن فرحون جدا في المملكة العربية السعودية هذه الأيام بهذا الحراك الذي تتداوله وسائل الإعلام عن التحول الوطني.
بعد وفاة المؤسس -رحمه الله- حدثت تحولات في المملكة فمن إنشاء أوبك في مطلع الستينيات الميلادية من القرن الماضي للحصول على السعر العادل لبترولنا من الشركات الكبرى المسيطرة على سوق البترول العالمي آنذاك، إلى ذلك القرار التاريخي الجريء الذي سمح للبنات بالتعلم رسميا بعهد الملك فيصل -رحمه الله-، إلى حقبة الطفرة المالية الأولى التي اعترفت الدولة رسميا بالتخطيط كوسيلة لتنمية المملكة وابتعدت عما كان يسمى بالخطوط العريضة للتنمية. إلى فترة الثمانينيّات التي بدأت بشائر استثمارات حقبة الطفرة الأولى لخلق اقتصاد حديث تظهر للعيان. أضف إلى ذلك أن الملك فهد -رحمه الله- قاد المملكة لتصبح دولياً لاعباً رئيسياً في منطقتها وما تحرير الكويت إلا مثال حي على ذلك التحول الكبير.
واستمر التحول في عهد الملك عبدالله -رحمه الله-، عهد افتتاح الجامعات في كل منطقة في المملكة، عهد دفع المرأة السعودية أن تكون فاعلة في بلادها، وعهد نشر الوجه الجميل للدين الإسلامي عالميا ومحاولة إقناع العالم بأن الحوار بين الأديان والدول هو الأسلم لحل المشاكل.
وها نحن اليوم في عهد الملك سلمان -أطال الله- في عمره الذي بدأ بإعلان حرب على البيروقراطية في الحكومة التي كانت وما زالت من أكبر العوائق في وجه سرعة التنمية في المملكة، وأعلنها كذلك عاصفة للحزم للدفاع عن شرعية جار مستجير بالمملكة وكذلك دفاعا عن مصالح المملكة والأمة العربية. ومن بدأ عهده بهذا الحراك والإنجاز بمدة قصيرة سيكون التحول الوطني في زمنه -إن شاء الله- تغيير كبير لتنمية أفضل لرفع المستوى المعيشي للإنسان السعودي وحفظ كرامته إذ لا خير في تنمية لا تؤدي إلى هذا الهدف النبيل.
كنت شاهدا مع الآخرين على الكثير من التحولات الوطنية منذ النصف الثاني لفترة الستينيات الميلادية من القرن الماضي، وحتى لا أتهم بالتواضع المزيف كنت حاضرا ومشاركا في الكثير من الإنجازات والإخفاقات وخاصة الاقتصادية منها، من ذلك الوقت إلى أن أصبحت متفرجا الآن على قارعة الطريق. كنا مجموعة من شباب الوطن حديثي التخرج من الجامعات يحدونا الأمل للمشاركة بتنمية المملكة. آمنت بِنَا القيادة وأعطتنا كل الفرص للمشاركة وتحقيق الحلم. الكثير منا تنقصه الخبرة وأخطأنا هنا وهناك وبعضنا أصبح نجما بمجرد أنه تكلم عن السعودية. واستمر العطاء على الرغم من كل العوائق التي واجهتنا، وما أكثرها، حقا إن الإيمان بحق المملكة بحياة أرغد والأمل بتنفيذ ذلك الهدف النبيل كانت الدعامتين القويتين لإعطائنا ذلك الإصرار ودفعنا إلى الأمام.
كنّا أشبه بذلك الطفل الذي دخل إلى متجر كبير للألعاب وأخبر انه يستطيع أن يشتري ما يرغبه، وحيث إن المملكة بحاجة لكل شيء تقريبا من ناحية التنمية وأصبح المال ليس عائقا، فتفجرت المخيّلات لرصد كل المشروعات التي حلمنا بها في الماضي وما أكثرها. ووضعت كل وزارة وهيئة مستقلة قائمة بمشروعاتها التي كانت أشبه بقائمة الرغبات والأحلام.
وظن الكثير منا أن المال يشتري كل شيء حتى الوقت، ونسينا أو تناسينا في خضم ذلك الطوفان من الفرح والنشوة أن قدرة الاقتصاد السعودي على استيعاب تلك المصروفات كانت محدودة جدا وكذلك القدرة على التنفيذ، فنتج عن كل ذلك الضغط وعدم القدرة على زيادة العرض لمجابهة الطلب العالي على كل شيء ما يتوقعه كل عالم في علم المنطق (الاقتصاد) أن ارتفع التضخم لمستويات عاليه لم تواجهها المملكة في تاريخها، خاصة في فترة 1971 إلى 1981م. وضج الناس!!
قد يتساءل البعض هل الوقت مناسب الآن لتحول وطني جديد؟ والاستفسار يجب أن يكون ما معنى الوقت المناسب. إن كان الناس تبحث عن تلك الفترة الزمنية في عمر الأمم والمجتمعات التي لا تعاني من تغير هنا وهناك أو مشكلة أو الرغبة في التحول، فهذا من مستحيلات الحياة. إذن كلمة مناسب بالمطلق لا معنى لها في معجم تنمية المجتمعات، فكل الأوقات مناسبة إن كان الهدف خير البلاد والعباد وعلى الله فليتوكل المتوكلون.
في بدء تطبيق التحول الوطني إليكم ما يلي:
- يجب اطلاع الناس على برنامج التحول الوطني الذي ننشده بالتفصيل، حتى يشعر كل إنسان أنه شريك في البرنامج. ويجب الصراحة في تسويق البرنامج مثل: إن ما ننشده لن يتحقق في يوم وليلة وأن التضحية في كثير من الأحيان تسبق قطف الثمار. لقد أخطأنا في الماضي حين خططنا بمعزل عن الناس ولم نتعمد تثقيف أحد، وحين اشتدت العوائق في وجه تنفيذ المشروعات وزيادة عرض البضائع والخدمات وارتفع التضخم عاليا كنتيجة، ضج الناس وسموها تعرية لا تنمية، لا بل إن المجموعة المؤمنة بالخطوط العريضة للتنمية وجدتها فرصة للقضاء على التخطيط المفصل، وفي عام 1976م شكلت لجنة في الدولة للنظر في خطة التنمية الثانية، واستبقت إحدى الصحف العالمية قرار اللجنة وأعلنت إلغاء التخطيط في المملكة على صفحتها الأولى. والحمد لله لم يحدث ذلك وبدأ الفرج يطل على الاقتصاد السعودي بالذات في عام 1978م، واستبشر الناس خيرا حين زاد عرض البضائع والخدمات بعد إزالة بعض العوائق التي كان من أهمها التكدس بالموانئ.
- يجب إيجاد بنوك إحصائية لكل نشاط في المملكة سواء كان ماليا أو غير ذلك، وخاصة المؤشرات الحيوية للاقتصاد السعودي. وحاضرنا يوحي أن نوعية الإحصاءات في المملكة تفتقد إلى الدقة، فمثلا ما هي نسبة البطالة؟ وما نسبة مساهمة القطاع الخاص في الدخل الوطني؟ وما نسبة امتلاك المساكن كأمثلة على عدم اليقين في أذهان الكثير من الناس، وحين نقارن توفر الإحصاءات في البلاد الآن بالماضي، لاشك أننا في وضع جيد والمشكلة هي في كفاءة الأرقام وليس كمها.
- دعنا نفكر جديا بأن التخطيط من المركز قد لا يكون الأجدى للتحول الوطني المرغوب بالكم والكيف والسرعة المبتغاة. إذن يجب أن نفكر بالتخطيط الإقليمي الذي هو أكثر مرونة وأسهل إدارة وما التخطيط العمراني إلا جزء منه الذي أبدعت بتنفيذه المملكة المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. فيا حبذا إن ابتعدنا قدر المستطاع عن محور جدة - الرياض- الدمام، ونركز في التخطيط الإقليمي على المناطق الواقعة شمال وجنوب هذا المحور لتنميتها والسيطرة على الهجرة الداخلية بالذات.
يجب معرفة المركز المالي للدولة، أي ما لها وما عليها حاضرا ومستقبلا قبل البدء بتطبيق التحول الوطني، ولا أدعي أنه غير متوفر، لكن التأكيد على ذكره قد ينهي بعضا من الاستفسارات مثل، هل ما على الهيئات المستقلة وما لها وكذلك الشركات التي تملك الدولة فيها قسما من أسهمها يدخل في المركز المالي للدولة.
ما ذكر أعلاه أعتبره كليات من أجل التحول الوطني والآن:
1 - يُبين سوق الأسهم السعودي أن نحو ثلث عدد أسهمه هي أسهم حرة فقط، والباقي حصة الدولة وبعض أفراد المجتمع مؤسسي تلك الشركات. وهو مؤشر على تركيز الثروة في نسبة قليلة من سكان المملكة، ولا غبار على ذلك لكن يجب ألا يستمر بهذه النسب من أجل أن يعم الخير العدد الأكبر من الناس.
إذن يجــب أن يشجع بقوة وبسرعة قيام الشـــركات المســـاهمة وتحويل قدر المســـتطاع الشركات العائلية إلى شركات مساهمة.
أما حصة الدولة في سوق الأسهم فيجب تحليل وضعها بهدف التخلص مما يجب التخلص منه لأسباب اقتصادية، مع إيماني بأن لا عيب في ملكية الدولة لأصل منتج ومربح اقتصاديا. وهذا يقودنا إلى فكرة التخصيص التي تظهر بين الحين والآخر وكأنها الحل الأمثل، لا بل يوحي بعض من يدعو لها بأن ملكية الدولة لأي أصل منتج ومربح محرم ويجب على الدولة التخلص منه وترك ذلك للقطاع الخاص فقط.
2 - لنعلم جميعا أن الاقتصاد السعودي أساسه ومحركه القوي هو القطاع العام، ومع كل ديناميكية القطاع الخاص فهو ما زال صغيرا من جميع الأوجه بالنسبة لما تطلبه تنمية الاقتصاد السعودي. إذن مشاركة القطاعين مع بعضهما ضرورة ملحة من أجل الاستفادة القصوى مما هو متوافر أو سيتوافر من عوامل إنتاج في الاقتصاد السعودي. وللمعلومية، وخاصة في الطفرة الأولى، كان كل قطاع ينظر للآخر بعين الشك وعلى ما أذكر فلم نتصل ونأخذ رأي القطاع الخاص إلا أثناء إعداد الخطة الثالثة بخطاب من وزارة التخطيط إلى الغرف التجارية والصناعية في المملكة ولم تستجب إلا غرفة المدينة المنورة بإعطاء مرئياتها. وهذا دليل قاطع على أن كل قطاع كان يعيش في عالمه في معزل عن الآخر.
3 - يجب التأسيس عن طريق الرسوم أو الضرائب أو وسائل أخرى، على أن سعر تقديم الخدمات لا تقل عن مجموع التكلفة التشغيلية والاستبدال المستقبلي لبعض الأصول. وأي مستهلك لخدمة ضرورية لا يحالفه الحظ على القدرة لمقابلة التكلفة يجب على الدولة بطرقها المتاحة من إعانات مباشرة أو غير مباشرة مساعدته للعيش بكرامة.
4 - حيث إن الاقتصاد السعودي الآن يتمتع بميزات كثيرة حين نقارنه بوضعه بالطفرة الأولى، مثل توفر العمالة الوطنية المتعلمة القادرة على إدارة وتنفيذ المشروعات الكبرى والصغيرة مع بعض التدريب هنا وهناك، فيجب التنسيق بين المشروعات أثناء التنفيذ وكذلك اختيار المشروعات حسب فائدتها الاقتصادية ككل كأول خطوة على طريق التحول الوطني. لقد كلفنا غياب التنسيق بين المشروعات في الماضي الشيء الكثير من المال والجهد ويجب عدم تكرار تلك الغلطة الكبيرة. ولا شك أن النماذج الهندسية والاقتصادية متوافرة لزيادة العائد الاقتصادي وغيره من التنسيق الجيد.
5 - يجب إنشاء مرجع إحصائي لتكلفة إنشاء المشروعات حسب نوعية المشروع وموقعه. لقد عانينا الشيء الكثير ودفعنا أثمانا عالية ماديا وغير مادية أثناء إنشاء المشروعات، فمن مشروع يكلف أضعاف أضعاف ما يكلفه مشروع آخر مماثل في منطقة ما بدون أسباب مقنعة سوى عدم الكفاءة في إدارة تنفيذ المشروعات. والنماذج الهندسية متوافرة للتقليل من التكلفة وكذلك قيادتنا في الاتجاه الصحيح عوضا عن البحث عما هو الأصح والأسلم في تنفيذ المشروعات.
6 - منذ أن بدأت المملكة في رسم الخطط التنموية وأحد الأهداف الرئيسية فيها كان تنويع القاعدة الاقتصادية. ولعدم توافر الإحصاءات الدقيقة لمعرفة ما هي نسبة النجاح لتحقيق هذا الهدف، فإنني أظن أنني لا أخطئ كثيرا أن قلت إننا ما زلنا في أول الطريق لتنفيذ هذا الهدف. والتنويع لا يعني الابتعاد عن الاعتماد الشبه كلي على قطاع البترول فقط، بل يعني خلق نشاطات اقتصادية جديدة تدر دخلا مجزيا وتكون مصادر توظيف لكل العوامل الإنتاجية في الاقتصاد السعودي، خاصة القوى العاملة الوطنية.
كيف نختار هذه النشاطات من أجل التنويع؟ عادة أول منطلق هو إحصاءات التجارة الخارجية، لنمحص قائمة الواردات ونختار على أساسها الصناعات التي يجب أن ننشئها لمقابلة الطلب المحلي وكذلك السوق العالمية للتصدير. طبعا كل هذا يعتمد على الجدوى الاقتصادية، لأننا لسنا في حاجة لتنويع القاعدة الاقتصاديـــة بمشروعات لا جــدوى منها اقتصاديــا. والمصــــدر الثاني لاختيار المشروعات لتنويع القاعدة الاقتصادية يعتمد علــى تمحيص الصناعـــات القائمة في المملكة لنتعرف على تلك الصناعات المربحة التي ما زالت في المراحل الأولى من التطور. مثال، هل استنفذت المملكة فيما يسمى ببناء المجمعات البتروكيماوية والمعتمد بعضها على بعض أم ما زلنا فيما يسمى بالمرحلة الأساسية فقط بالصناعات الكيماوية التي تنتج مواد أولية لتصدر لتعود لنا مواد نهائية جاهزة للاستعمال والاستهلاك. نبحث عن القيمة المضافة المالية وليس الجزء البسيط من القيمة في المنتج والمصدر الثالث لاختيار المشروعات الصناعية هو العالم كله.
لنبحث عن الشركات القائمة التي برهنت على قدرتها وفعاليتها الاقتصادية من جميع الأوجه، ولنشاركها ولندعوها لربط جزء من نصيبها المالي بالمملكة العربية السعودية. وما أكثرها في رأيي. هذه المصادر الثلاثة لمعرفة ما المشروعات الصناعية التي يجب أن ننشئها لتنويع القاعدة الاقتصادية، ستقودنا بالفعل إلى تحقيق هذا الهدف النبيل وتقليل اعتماد الاقتصاد السعودي على البترول وكذلك لتنويع مصادر تنميته المادية وغير المادية. هذا لا ينفي وجود مصادر أخرى كالاختراعات لإرشادنا في بحثنا عن مشروعاتنا لتنفيذ تنويع قاعدة الاقتصاد الإنتاجية. لنبتعد عن محاولة اختراع العجلة من جديد فهي محاولة في أكثر الحالات مضيعة للوقت.
7- دعنا نستفيد من كل طاقة متوافرة في البلاد ولتستغل استغلالاً جيداً لخيرنا جميعا، دعنا نعصر إن صح التعبير، كل عامل إنتاج في المملكة لآخر قطرة من العطاء لتنمية المملكة، وبلد ثلث سكانه أجانب وأكثرهم عمالا هو مؤشر أن ذلك البلد لم يوظف الطاقات الوطنية المتوافرة بكل كفاءة. لقد فكرت حكومة المملكة سابقا بالخدمة الوطنية أو ما يسمى بخدمة العلم، فيا حبذا لو تعاد هذه الفكرة وتنفذ بالسرعة القصوى. وخدمة الوطن يجب أن تشمل جميع أوجه النشاطات الاقتصادية وغير الاقتصادية. فخدمة الوطن لا تعني النشاط العسكري فقط بل تعني جميع نشاطات الحياة ولتشمل كل أفراد المجتمع، هي خدمة لتدريب أبناء وبنات الوطن على التكيف للعيش والمشاركة في اقتصاد حديث يحترم الوقت ويقدر الإنتاجية العالية ويتصف بديناميكية ذاتية لاستمرارية التحول الوطني.
وختاما لقد توافرت فرص اقتصادية كثيرة في الماضي للملكة ولم يستفد منها، وأملي ألا يخرج علينا جماعة (الوقت غير مناسب) هذه الأيام لتجميد أو إبطاء التحول الوطني الذي ننشده ونحتاج إليه. أؤمن إيمانا قاطعا أنه منذ أوائل السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، لم يعق تنمية المملكة لتصبح دولة صناعية ذات اقتصاد متطور ومتنوع وقاعدة إنتاجية، مثل بعض الدول التي بدأت تنميتها في نفس الوقت (كوريا الجنوبية كمثال) إلا عدم كفاءة الإدارة العامة في المملكة، فعسى أن ما يحدث الآن يخفف من سطوة هذا العائق قدر الإمكان لتحرير الاقتصاد السعودي والاستفادة القصوى من جميع عوامل إنتاجه.