ولد نواف كامل الأوصاف، وبراءة الأطفال على محياه، وفرحنا بمولده، وكان أشدنا إظهاراً لفرحه بقدوم نوف شقيقه راكان، والذي كان يشعر بأنه أقلية بين هيا والبندري، وبدأنا كعائلة نعد الأيام لا بل الساعات حين تخرج والدته أمل ونواف من المستشفى لتعم البهجة والسعادة في أرجاء منزلنا والذي لم ينقصه إلا حضورهما، وبعد يومين من الولادة انقلبت السعادة إلى حيرة، والفرح إلى ترح،
حين أُخبرنا أن نواف نُقل إلى حاضنة في ذلك المستشفى الذي ولد فيه، وهو من أقدم المستشفيات الخاصة في الرياض، وصدمنا واستفسرنا ماذا حدث، وحتى الطبيب الذي باشر الولادة كان ملحاً على المستشفى لمعرفة ماذا حدث، وحين رأيت نواف في تلك الحاضنة يتنفس بمساعدة خارجية كان لزاماً عليَّ التفكير بمعالجته قبل البحث عن الأسباب وماذا حدث، وحين طلبنا المساعدة الطبية كانت المفاجأة والتي هي أشبه بالفاجعة أن مستشفى فندق الخمس نجوم لا يوجد لديه المستشارون المختصون بمثل ما يعاني منه نواف، والذي حتى الآن يعتقد الكثير ممن عالجه أن سبب ضيق تنفسه كان بسبب إدخال أنبوب غليظ في حنجرته وجرحت، وأدى التورم إلى حاجته لتلقي الأكسجين من أنبوب متصل في أنفه. واستشرنا بسرعة، وكان إجماع الآراء على نقله إلى مستشفى الملك فهد للحرس الوطني في الرياض، ذلك المستشفى الذي لم أدخله في حياتي ولا أعلم عنه أي شيء، ونقل نواف إليه وأودع بالعناية المركزة في جناح حضانة الأطفال.
وعادت والدته أمل إلى بيتنا من دون نواف، عادت الأم التي حملته تسعة أشهر ولم تكسب حتى إرضاعه ولو ليوم واحد كمن سبقه من أشقائه، عادت وهي التي حُرِّمت حتى من ضمه إلى صدرها ولو لمدة قصيرة، وخيم سكون على أجواء منزلنا، وكثرت إسئلة إخوته: أين نواف؟ ومتى نراه؟ ومتى يعود؟ وكان جوابنا «إن شاء الله عن قريب». وأصبح الصمت والهدوء الصفتين الملازمتين لكل منا، وبدأت الرحلة اليومية من غرب الرياض إلى شرقها لرؤية نواف وسماع آخر الأخبار عنه، وكانت كل رحلة تتصف بخاصيتها، فمنها ما أسميتها رحلة الأمل وخاصة حين نأتي من غرب الرياض، وكذلك رحلة الصمت وهي التي تحدث حين نترك نواف ونعود إلى منزلنا، فكان كل منا يخلد إلى الصمت، وإنني على يقين بأن والدته أمل لا تفكر إلا بوضع نواف وكنت مثلها، فبلمسة يد ونظرة عين كنا نتبادل الأحاسيس بكل ما فيها من أمل وحزن وشقاء، وبالصمت كنا ندعو لنواف بالسلامة.
وحين تحققنا بأن مكوثه في العناية المركزة سيطول، تقاسمنا الأدوار وخصوصاً أننا مسؤولون عن إخوة صغار في حاجة لوجود أحدنا في المنزل لنبعد عنهم كل حزن قد يطرأ كنتيجة لوضع نواف، وكنا نريد أن تسير الأمور في منزلنا كما كانت قبل مولده، وحاولنا جهدنا ونجحنا أحياناً وفشلنا كثيراً بإبعاد تأثير وضع نواف عليهم، إذ إن راكان وهيا والبندري لم ينسوا دائماً تذكيرنا بنواف، ويا إلهي ما أكثر استفسارات أطفال عن أخ لهم وُلد ولم يروه بعد، تقاسمنا الأدوار فأحياناً أذهب مساء لوحدي وفي اليوم التالي تذهب أمل صباحاً، وهكذا ولمدة أربعة أشهر كنا كل يوم أما سوية أو فرادى نقوم برحلة الأمل والتي لم تخل من حزن هنا وعذاب هناك متلحفين بالصمت والتأمل، كنا ندخل غرفة نواف بالعناية المركزة، وحين أرى ذلك المخلوق الصغير ملقى في سريره والأنابيب متصلة بجسمه، ويا ربي كمن أبر غرزت في ذلك الجسم ولم تسلم منها حتى جمجمته، فكنت أهرب من الغرفة، أما الأم الحانية الصابرة المؤمنة فكانت لو سُمح لها لبقيت في جواره العمر كله، وكم كنت أحسدها حين تشغل نفسها وهي بجواره، فتراها ترتب سريره وهو ليس في حاجة لترتيب، وتلمس كل أنبوب مرات عدة خوفاً من انقطاعه كما أظن، وتتكلم مع نواف وكأنه البالغ الفاهم لما تقول. كنت أهرب جسدياً وأخرج من جوار نواف عساني بذلك أخفف من عذابي وأحمي نفسي من الانهيار أمام أمل. كان لزاماً عليّ إظهار رباطة الجأش، وما أصعب ذلك حين يكون المرء يتألم داخلياً وكأنه ينزل الدمع والدم معاً من رؤية لطفله في حالة مؤلمة. وبعد أربعة أشهر عاد نواف إلى بيتنا وشاهده إخوته لأول مرة في حياته، وطبعاً فرحوا فرحاً جماً، واستبشرنا جميعاً خيراً بأن المرحلة الصحية الأصعب لنواف قد مرت بسلام رغم كل ما واجهنا من ألم وحزن وعذاب وكل ما تحمَّله نواف من علاجات وفحوصات كثيرة. وحيث إن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، فإنني أشكر مع حفظ الألقاب (وللمعلومية كل من يسبقه اسمه دكتور فهو طبيب ما عدا كاتب هذه السطور).
أولاً: الدكتور سيف السيف (طبيب أطفال) والذي كان أول من قابلته في ذلك المستشفى والذي أدخل نواف في العناية المركزة التي كان يشرف عليها مباشرة، سيف ذلك الإنسان النشط والذي لم يتوان عن استشارة كل من ظن أنه خبير في شيء بالنسبة لنواف، وكان يضفي جو الأمل بعلاقاته مع الكل والتي كنت أراقبها أحياناً عن كثب وأحياناً عن بعد، وكان صارماً من ناحية نظافة ما يشرف عليه، لك الله يا سيف فلقد أصبحت أخاً عزيزاً وإنني لمدين لك طيلة حياتي.
ثانياً: الدكتور خالد المزروع (استشاري الأنف والأذن والحنجرة) والذي كان دقيقاً محدداً فيما يقول، فبعد المنظار الأول طمأننا أن وضع نواف مستقر، وبعد فترة كشف عليه ثانية، وكان قراره أنه لن يجري عملية لنواف لفك ربط الصوت الملتصق إلا بعد أن يكمل نواف سنة من عمره، كان الأستاذ العارف بمهنته، ولم يثنه عن ذلك القرار إلحاحنا بطريقة غير مباشرة، فليس من الممكن إجراء العملية قبل ذلك الوقت، فسيبقى الدكتور خالد عزيزاً علينا قريباً من قلوبنا وهو الذي نفذ ما أوعد به على أكمل وجه وكفاءة.
ثالثاً: الدكتور حماد السعدون (طبيب الصدرية) والذي أكد لنا بأن نواف سيكون بخير بعد إجراء العملية من ناحية الصوت، وأصر زيادة في الحرص أن يرسله للمستشفى الجامعي في جامعة الملك سعود ليبيت ليلة هناك ليخضع لفحوصات خاصة بالتنفس أثناء النوم، فبارك الله بحماد الذي لم يتعب من كثرة تساؤلاتنا وجهاً لوجه وكذلك بالهاتف.
رابعاً: الدكتور فهد الحسين (طبيب أطفال) المستعد لكل مساعدة بابتسامته وخلقه ونبله والذي كان يردد: سنقوم بالمطلوب، وصدق في القول والعمل.
خامساً: الدكتور خالد مكيمن السبيعي العنزي (طبيب أطفال) والذي كان يعمل في مستشفى الملك فهد والذي عرفني على الدكتور سيف السيف، فيا أخي خالد كنت دائماً أذكرك أن معزتي لك مستمدة من معزتي لوالدك -رحمه الله- والذي لم يبخل في إظهار محبته لي حين كنت طفلاً بشتى الطرق، فأنت الآن كسبت محبتي ومعزتي في ذلك العمل الطيب والاستفسار دائماً عن نواف.
ما ذكر أعلاه من أطباء هم من كان في تواصل مباشر مع حالة نواف وساعدهم في ذلك الكثير من ممرضين وممرضات، فمعذرة إن لم أذكرهم فرداً فرداً غير أنني شاكر ومقدر لكل ما قاموا به من أجل نواف وغيره من الأطفال في تلك الحضانة وخصوصاً في العناية المركزة.
أما الذين زاروا نواف مع غيره من الأطفال فهم كثر، وأخص بالذكر الدكتور عبدالله الربيعة (قبل أن يصبح وزيراً للصحة)، ذلك الإنسان الخير الذي كان المسؤول الأول عن الجهاز الصحي في الحرس الوطني ولم يدخر الوقت فكان يزور المنومين في مستشفى الحرس وخصوصاً الأطفال، وإلى من خلفه في رئاسة الشؤون الصحية في الحرس الوطني الدكتور بندر القناوي والذي كلمني مهنئاً بخروج نواف من العناية المركزة وهو خارج المملكة، ذلك الإنسان الذي لم أقابله في حياتي في ذلك الوقت، فشكراً يا بندر على تلك اللمسة الإنسانية.
لقد عالجتم نواف جسمياً وبمشيئة الله ثم بجهدكم، ومن قبله بتوفيق الله ورحمته نجا نواف، وكنتم في الوقت نفسه تعالجون والديه نفسياً وخففتم عنهما عذاب النفس والحزن بحسن معاملتكم ومهنيتكم العالية، ولقد صدقتم الله والناس ونفذتم القسم الطبي الشريف، لقد كنتم نبلاء بكل معاني الكلمة لأنكم برهنتم بأن نجاحكم في عملكم وسعادتكم تستمدونها من إسعاد الآخرين، ولعمري أن هذا قمة العطاء الشريف والنبل في الأخلاق.
من المفروض أن يستمد الإنسان عبرة هنا وأخرى هناك من المحن التي يواجهها، لقد كنت منذ أن خلقت أكره المظاهر البراقة اللماعة لأنها -في رأيي- في أكثر الأحيان، لا تمثل الحقيقة، وهذا ما تأكد لي في محنة نواف، لقد ذكرني ذلك المستشفى ذو الخمسة نجوم بالفندقة بتلك المرأة التي تخفي قبحها بالمساحيق الكثيرة وتحاول الظهور بمظهر المحتشمة لتخفي عفنها وانحطاط أخلاقها. دعونا لا ننخدع بالبنايات الجميلة والردهات المزخرفة المؤثثة على درجة عالية من التكلفة وخصوصاً في مجال الصحة والتعليم.
تحية احترام ومحبة للقائمين على مستشفى الملك فهد للحرس الوطني، وخصوصاً أولئك الأطباء الذين تعاملت معهم مباشرة، وتحية لهذه المؤسسة، الحرس الوطني، والذي برهن أنه رافد خير على طريق تنمية المملكة العربية السعودية بنشاطاته العسكرية والصحية والتعليمية. ودعائي أن تبقى المملكة آمنة مرفوعة الرأس لا علامة عجرفة وازدراء لأحد، بل علامة شكر وعرفان للعلي القدير الذي وفقها لرفع مستوى المواطن المعاشي وصيانة كرامته.
- وكيل وزارة التخطيط سابقاً