د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
ويحاول الباحث جاهدًا أن ينأى بنفسه عن اتهام ابن مالك، فهو يعلق على عمل فيصل المنصور بقوله (ص177) «وقضية أن هناك أبياتا كثيرة لابن مالك في بعض كتبه فهذا أمر محسوم، ولكن الفرق والتباين بيننا في تفسير هذا الصنيع من ابن مالك كما سيبين هذا البحث»، فالباحث يوافق فيصلًا في وضع ابن مالك لتلك البيوت الكثيرة، ولكنه يرى نفسه مخالفًا له في تفسير صنيع ابن مالك، ولست أرى ما فعله الباحث مفسرًا لعلة سكوت ابن مالك عن التصريح بوضع تلك البيوت بل راح ينسبها حينًا لشاعر من طيّئ وهو أمر قد يوهم بقدم البيوت، وجل ما فعله الباحث هو درس وصفي لميادين استعمال تلك البيوت وهو أمر نافع؛ ولكنه لا يغفر لابن مالك ولا يبرئه إن كان الباحث يروم تبرئته، ويذهب الباحث مذهبًا غريبًا حين يقول (ص177) «إن الكذب ليس واردا عليه لأنه لم ينسب بيتا إلى غير قائله، ولم يكذب حين نسب أبياتا لرجل من طيئ، أو نسبها لأحد الفصحاء أو لإمام من أئمة العربية فكل هذا يصدُقُ عليه»، وهذه مغالطة وسفسطة بينة، نعم هو ليس بذلك كاذبًا ولكنه مدلس كما قال المنصور، وينفي الباحث في الصفحة نفسها عنه التدليس بحجة أن طريقة المحدِّثين تختلف عن طريقة النحويين وأنه «لم يكن لزاما على ابن مالك أن يخبر بهذه الأبيات» وهو قول لا يخلو من لبس فإن كان يقصد بأنه لا يلزمه نسبة البيوت كان التوقف في هذا؛ لأنه ليس في عصر الاحتجاج حيث يقبل الشعر المجهول القائل، وإن كان يقصد أنه ليس ملزمًا أصلًا بوضع تلك البيوت فالقول إنه قد فعل. ومن عجب أن يقول الباحث في (ص187) «ومع أن ابن مالك لم يُرِدْ لتلك الأبيات أن تكون شواهد، ولكنّه لو أراد ذلك فإن له في كلام المتقدمين ما يشفع له»، وينقل نصًّا لابن قتيبة يعيب فيه من يقبل القديم لقدمه لا لجودته، وقول ابن قتيبة صالح في نقد الشعر وبلاغته؛ ولكنه لا علاقة له بالاستشهاد، فالشاهد لا ينظر فيه إلى جمال بل إلى توافر شروط الاستشهاد به، ولست أخالف في أمر شاعرية ابن مالك وجمال سبكه ولا أدفع حقه بأن يمثل بما شاء من مُثُل من شعره أو من شعر غيره؛ ولكن المطلوب التصريح بأن ما يساق هو من قبيل التمثيل أو الاستشهاد. ونقع في حيرة أفَمدحًا يراد لنا أن نفهم أم قدحًا من قول الباحث (ص200) «كان من طريقة ابن مالك أنه عند تناول بعض المسائل يسوق عليها أبياتًا من نظمه ويترك ما استشهد به النحاة عليها». ومن ذلك قوله في (ص226) «قد يكون الشاهد المسوق للستشهاد على مسألة ما غير محقق للمراد كما يريده ابن مالك ويرى أن غيره أكمل في الدلالة، ويظهر هذا الأمر في مثل مسألة نصب المضارع بـ(أن) مضمرة»، ومثله في الصفحة نفسها «فقال ابن مالك: إنه لا يُستشهد على هذه المسألة بما أنشده سيبويه من قول زهير السابق؛ لأن الفعل المتقدم على الفاء منفي، وجواب النفي يُنصب في مجازاة وغيرها، وإنما يستشهد بقول الشاعر:
ومن يقتربْ منّا ويخضعَ نُؤْوِهِ
ولا يخش ظلما ما أقام ولا هضما
فقد رأى ابن مالك أن بيته أوفى بالقاعدة وأسلم من استدراك». ومثله قوله في (ص205) «وكان من طريقته أنه قد يمثّل على المسألة ببيت من شعره، ويذكر المسألة نفسها في مؤلَّف آخر فيمثل ببيت آخر»، وهو يذكر في (ص207) كيف أن ابن مالك ردّ الزعم بأنه لم يسمع النصب في خبر (لا) العاملة عمل (ليس) ملفوظًا، وأورد بيتين من نظمه، وقد فعل ذلك لما رأى الشواهد الواردة يدخلها الاحتمال «فلم يبق ما يدل على أنها تعمل عمل (ليس) إلا البيتان السابقان». وفي (ص218) يذكر أنه استشهد بآية وبثلاثة أبيات ومثل من شعره بثلاثة أخرى، ولست أدري كيف يخرج قول ابن مالك الذي جاء في ساقة كلامه هذا ونقله لنا بنصه، وهو قول ابن مالك «وأنما كثّرت الشواهد في هذه المسألة لأن المخالفين كثيرون»، يفهم من هذا أن ابن مالك يسمي ما يعده الباحث من المثل شواهد. والباحث نفسه قد يسمي مُثُلَ ابن مالك شواهد كما في (ص218) قال «ويلاحظ هنا أن أبياته التي مثّل بها لم تَزدْ في المسألتين عن نصف الشواهد».
وأحسب عمل الباحث عملًا وصفيًّا جيّدًا لو نأى عن محاولة تبرئة ابن مالك من الوضع واكتفى بهذا الوصف المفيد.