د. عبد الله بن عبد الرحمن الربيعي
في عام 1390هـ، دخلت المعهد العلمي بعنيزة فانتابني حينها شعور بأنني لست في مدرسة متوسطة وثانوية إنما في صرح عال، مديره ليس كالمديرين، ومدرسوه ليسوا كالمدرسين، في منزلة أعلى علما وإدارة، فالأستاذ عبدالله اليوسف (وهذ الاسم المختصر لدى أهل البلد) أدار دفة المعهد سنين، وحوله كوكبة من العلماء؛ الشيخ محمد العثيمين، والشيخ علي الزامل والشيخ عبدالعزيز المساعد وغيرهم، ومعهم مربون أفاضل مثل الأستاذين عبدالرحمن التركي وصالح العبيكي وغيرهما، رحم الله من رحل منهم ومتع الله الحي بالصحة والعافية. وذات يوم كنا في رحلة برية تجمع الأساتذة بعدد من الطلاب المبرزين فأخذ أستاذنا عبدالله يسأل أسئلة عامة ويشجع من فاز ولا يقرع من أخطأ فزرع في نفس المجد طموحا ونزع من فكر المخفق الوجل من الفشل.
غادر المعهد، وظل يتابع تلميذه، ويطمئن على مركزه الأول ست سنين، وفي الرياض، أصبحت في قسم التاريخ، وكان أمينا عاما للجامعة، فكنت الجأ إليه في كل معضلة علمية، ماكنت أقطع أمرا حتى يشهد. وهو الذي بذل جهدا مع وزارة الإعلام ليفكوا قيدي كيما أكمل دراساتي العليا في الجامعة وقد أصبح وكيلا لها. حتى إذا ما اختار صاحبكم فرنسا في مرحلة الدكتوراه وجدته مؤيدا ومساندا. ولن أحصي صنائعه ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ودعوني أدبج تأبينه رحمه الله في نقاط خمس كحروف اسمه:
أ - عبدالله اليوسف أو الأستاذ الدكتور عبدالله الشبل أو صاحب المعالي، كل هذه الألقاب تصغر أمام علم عالم، ومثقف شامل، وهاو للقراءة والبحث والنقاش. فمذ كان يافعا وهو يتتبع حيا العلم ومنابت المعرفة ويجمع ثمارها بقلب عقول ولسان سؤول وتواضع جم. حفظ الذكر الحكيم، ونال إجازات في الحديث، ودرس الفقه وأصوله والتفسير وعلومه، واللغة والأدب، بل وأتقن فن الصيدلة واللغة الانجليزية. أما تخصصه الدقيق فكان في مصادر التاريخ الوطني فحقق تواريخ ابن ربيعة والفاخري وابن عباد وألف كتبا ونشر بحوثا ومقالات هي بمثابة مراجع للباحثين والباحثات في التاريخ الوطني ومنه تاريخ الدولة السعودية في مراحلها الثلاث التي أحب رموزها، وأخلص لملوكها، ونافح عنها في تآليفه وأحاديثه وكلماته أينما حل بمنطق سليم وحجج داحضة فقدره الملك سلمان بن عبدالعزيز واحتفى برايه وأثنى على علمه. في احتفالية منحه جائزة الملك سلمان بن عبدالعزيز للرواد في دارة الملك عبدالعزيز الذي كان عضوا في مجلس إدارتها. كان دقيقا في ملاحظاته، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالقرآن المجيد؛ كان إمام مسجد الحي يستفيد من تصويباته إذا أخطأ في التلاوة، قرأ المغني لابن قدامة عشر مرات. وسار على خطى الشيخ عبدالرحمن السعدي علما وحلما وروية. وتأثر بأبيه الشيخ يوسف الشبل الذي كان كريم النفس مفضالا.
ل - كان رحمه الله يجل العلماء ويبجلهم، وكانت الأستاذية تمنح لمن يعين وكيلا لجامعة فأبى إلا أن يقدم بحوثا استحق بها الترقية إلى هذه الرتبة العلمية السامية، وكان يحب المناقشات والمناظرات العلمية والمؤتمرات ذات الصلة بالتاريخ والحضارة ويتقبل النقد الهادف باحثا عن الحقيقة، ولم يدخل في مهاترات، ولما أبدى رأيه حول الأوضاع الدينية في الجزيرة العربية قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وذكر أن ما قال ابن غنام وغيره مبالغ فيه فلم تكن بهذه الصورة من فشو الشرك والكفر؛ فانبرى له رهط ممن يردفون «عفى الله عنه» بعد اسم من لا يعجبهم وبكل أدب جم أقنع بعضهم فأضحى من المقربين إليه لأن قلبه سليم لا يعرف إلا وظيفتين الإيمان وتنقية الدم؛ لذا لا يحمل الحقد ولا الحسد ولا يفرق بين أحد من بني وطنه. مؤتمن على تاريخ بلاده؛ حتى إن الشيخ حمد الجاسر رحمه الله كان يستشيره في مسائل تاريخية كالدولة الأخيضرية وغيرها. أما منهجيته في تأليفه وإشرافه وتحكيمه فمبنية على التأصيل والتعليل والتحليل والاستنتاج السليم استصحب ذلك في الرسائل العلمية التي أشرف عليها في السنة النبوية والتاريخ الحديث والمعاصر وكانت مكتبته متاحة لطلابه بل استفاد من محتوياتها طالباته.
حكم المنية في البرية جاري
ما هذه الدنيا بدار قرار بينا
يُرى الإنسان فيها مخبراً
حتى يرى خبراً من الأخبار
ش - وكان في الإدارة جهبذها، والجواد الفائز في مضمارها، حفظ الأنظمة، وترأس اللجان الإدارية والمالية، وناقش بنود الميزانية ببصيرة وحنكة، وأوكل إليه معالي الأستاذ الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي مدير الجامعة المؤسس أمر مشروع المدينة الجامعية فكان يداوم بعد الدوام فيها، يقف على كل صغيرة وكبيرة، يناقش الأمور الهندسية مع المهندسين، والمالية مع المتخصصين، يراجع الشركات الأجنبية في عقودها ويضبط إيقاعها، بنزاهة تركت أثرا على سلامة المنتج من الغش والتدليس حتى أصبحت المدينة الجامعية مثالا وأنموذجا للمدن الجامعية. كان لا يعرف المناطقية والجهوية في تعامله مع موظفيه وأعضاء هيئة التدريس وكان كلما ترقى في مناصبه لا يغير طاقم مكتبه، وذات يوم فوجئت بعلي الدريس رحمه الله يتصل بي ضمن عدد من الأساتذة للحضور إليه، ولم ندرك مراميه، ولما وقفت بين يديه ذكر لي اختياري وكيلا لعمادة البحث العلمي فقلت له: أستاذي أعرف انك لا تحابي أحدا وإني محسوب عليك وأخشى أن لا أكون في مستوى تطلعاتك فاعفني فقال لي : الذي اختارك هو الدكتور فهد بن عبدالله السماري عميد البحث العلمي وأنا أوجهك إلى العمل معه فقلت الآن سمعا وطاعة. وفي اتخاذ القرار كان ينشد المصلحة العامة؛ ويستأنس بالتوجيهات النبوية «لئن تخطيء في العفو خير من أن تخطيء في العقوبة». وإذا جيء بمعاملة فيها فصل لموظف قال: إنكم تعاقبون أسرته حيث تقتات على راتبه فأمهلوه وانقلوه نقلا تأديبيا لعله يرعوي.
ب - أما عن كرمه فغيث لا ينقطع، فكان لا يرد سائلا، ويعطي بخفاء وسخاء، يغشى مكتبه المحتاجون من المستخدمين والفقراء والمغتربين، كان يتفحص قسمات وجوه موظفيه ويسأله عن حالهم وعيالهم. كان يساعد الغارمين، والمدينين وربما كفلهم لدى الدائنين. في رحلاتي إلى أوروبا وآسيا وأفريقيا التقيت عددا من خريجي الجامعة فيسألون: كيف الشبل؟ استدان ذات مرة مهرا لقهوجي لديه، تزوج وأنجب وأستاذنا يسدد دينه دون أن يجرحه ويطالبه برد الدين؟ وذات يوم أخبرته أن لدينا في العمادة موظفا ناسخا محتاجا فكلفه بإدخال نصوص من كتاب له واشترط عليه تنفيذه في بيته وفاجأه بمبلغ يعادل راتب شهرين من ماله الخاص.
باختصار لا يعرف الادخار ولا أساليب التجار، يشعر بالرضا، ويسعد برؤية الناس في مجلسه، يشفع لمن يقصده، وتشعر بالحرج الشديد وهو يكرر جملة « أنا مقصر» ما أعظم هذا الرجل يهتم بواجباته تجاه الآخرين كما يضخمها هو، ويتنازل عن حقوقه وهي كبيرة وكثيرة سبحان من سواه ورباه واصطفاه. ولما نقل اتحاد المؤرخين العرب من بغداد إلى القاهرة وكان الشبل من أبرز مؤسسيه، وظل يسهم بمبلغ سنوي حتى تولى الشيخ الدكتور سلطان القاسمي بناء المقر وتأثيثه منذ عامين أو أكثر.
عليك سلام الله مني تحية
ومن كل غيث صادق البرق والرعد
ل - في 16 يوليو 2015م، أنشأ ابنه الوحيد عبدالعزيز (وهو واحد كالألف) مجموعة د. الشبل في (الواتساب)، فكان منتدى وفاء وود لهذا الشامخ، كل أدلى بدلوه، حتى تمنى البعض جمع هذه المشاعر في كتاب، لكن المؤرخ الثبت الأستاذ الدكتور عبدالرحمن العريني الذي كان أحد مريديه وتتلمذ على يديه أنهى أن أستاذنا رحمه الله أذن له في تأليف كتاب عنه وأمده بالمعلومات اللازمة وهذه إشارة الى أنه رحمه الله لا يريد المبالغة في مدحه ولا العبارات الانشائية في وصفه بل أوحى إلى أبي علي بأن يركز على منهجه لأنه خير وأبقى. ولم يسبق لي أن كتبت عن معاليه إلا مرة وبعد تردد، وتودد حتى أذن لي مشترطا البعد عن المديح المفرط، فكان مقال «الشبل وثقة المليك» بمناسبة تعيينه مديرا للجامعة عام 1418هـ. بناء على ترشيح وتزكية من الأمير (الملك) سلمان بن عبدالعزيز الذي كان ولا يزال يقدر علمه. وقد طفت على السطح همهمات تعرض باختيار متخصص غير شرعي لتسنم إدارة الجامعة ولم تدر تلك الفئة أنه فقيه بين الفقهاء، لغوي بين أهل اللغة، أديب بين الأدباء فلما تبين لهم ذلك ثابوا عفى الله عنهم.
وفي صبيحة يوم الاثنين الرابع من رجب من عام 1437هـ، رجعت النفس المطمئنة إلى بارئها راضية مرضية ليدخلها في عباده ويدخلها في جنته إن شاء الله، وصلت عليه الجموع في جامع الراجحي - شرق الرياض وشيعوه إلى مثواه البرزخي في مقبرة النسيم, رحمه الله رحمة واسعة. وعزاؤنا لأخيه الأكبر عبدالرحمن شفاه الله، وابنه عبدالعزيز وبناته، وزوجاته، وأبناء أخيه وأسرة الشبل عامة، وأحبائه وطلابه وطالباته.
ونتطلع إلى قسم التاريخ والحضارة في الجامعة، ودارة الملك عبدالعزيز، ومركز صالح بن صالح الثقافي بعنيزة، وجمعيتي التاريخ السعودية والخليجية، ومركز الشيخ حمد الجاسر ومجلة العرب، واتحاد المؤرخين العرب، لعقد ندوات ولقاءات تتناول هذه الشخصية الفذة. وأن تتبنى جامعة الإمام تسمية قاعة كلية العلوم الاجتماعية باسمه، وأن يطلق اسمه على شارع من شوارع الرياض وعنيزة. وأقول في الختام كما قال الشاعر:
عليك تحية الرحمن تترى
برحمات غوادٍ رائحات