سررت وأنا أشاهد تكريم الأدب والتاريخ والثقافة مجسدة في شخصية وطنية رائدة (عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري رحمه الله). كان أول لقاء لي معه في قصره العامر بعد عودتي من فرنسا، بدعوة كريمة من لدنه وبصحبة نخبة من الأكاديميين وبتنسيق من معالي الأستاذ فيصل بن عبدالرحمن المعمر، كان ذلك في يوم من أيام العام 1412هـ. لقد انتابني شعور وأنا ألتقيه أول مرة وكأنني معه أبدا، كان مهيبا وقورا، معنيا بشؤون ضيوفه، يتفقدهم بروح أبوية. خرجت من هذا بانطباع أن هذه القامة التي ذاع صيتها كشميم عرار نجد، وشذى خزاماه، وطيب الكادي من جنوب بلادي جعلتني أفقد السيطرة على مشاعري تجاهه فسطرت عبارات لا تتسور محرابه، بل تقصر عن شأوه، ولكنها رسالة لم تضل الطريق لأن عنوان أريحيته محفور في ذاكرة الزمن، ولأن فهمه للإشارة وفر علي الإطالة والتجلية. أتدرون ما جوابه!
أرسل إليّ في7-7-1412هـ. يقول: (وصلني خطابكم الكريم وقد كان له أثر في نفسي، فمبادرة كهذه هي حس وشعور واهتمام بالغ باستجلاء ما قد يكون غامضا على المرء - هكذا أتصور - وأشكر لكم زيارتكم. رسالة لا أراها صادرة عن عاطفة تتملق عاطفة أخرى أبدا وهذا ما يجعلني أضع لرسالتك في نفسي مكانا لائقا بها). لاحظوا عظمة التواضع، والسمو على شوائب العلاقات من تملق ونفاق. هذا النائف الأشم كان يرى الحياة: (تقف بالإنسان على مفترق طرق، وويل له ثم ويل لمن ضللته هذه الطرق عن نفسه وعن قيمه ومثله العليا). لا غرو ولا عجب من شخص يؤمن بأن (ليس للإنسان إلا عمره وهو عمر قصير جدا قد لا يعدو غير خطوة واحدة على درب الحياة الطويل). أليس القائل في هذه الرسالة: (نحن بقايا الماضي، فمهما أعطتنا الحياة أو دفعت بنا في الصدارة لا ننسى أنفسنا ولا ننسى ما كنا عليه؛ ذكرياتي مع المزارع البسيط أو الأجير عنده أو من كان يجالسني وأجالسه فيما يسمى (العاير) في لغتنا العامية لم تستطع ظروفي التي أنا عليها اليوم أن تعزلني عن هذه الذكريات). اختصر التواضع بأنه (المدخل إلى قلوب الناس وإلى السعادة وإلى النوم العميق الذي لا يقلق نائما على وسادة وإن كان الحجر).
وفي رسالة له مؤرخة في 30-10-1414هـ ، أبت حاتميته إلا أن تسبغ عليّ ما لا أستحقه: ( الشيء الذي يرمي ثقله على رسالتك الأخوية هو تساؤلك أصحيح أن لي أصدقاء روح كهذا الذي يرى لزاما عليه - كما عبّر - احترامي وإجلالي إلى آخر ما قدمته إليّ رسالتك من صفاء روحك ونفسك. أنا - أيها الأخ - سعيد جدا بمشاعرك السخية، وإذا أكدت لك ذلك وأدركت معناه في نفسي فلأني مأخوذ في كل حياتي بحب الأصدقاء والسعي إليهم وإن كانوا في غياهب الماضي البعيد، أتجاوزه إليهم بخيالي وذهني). كم هو وفي رحمه الله، قلبه معلق بأصدقائه حتى بعدما يتوارون خلف البرزخية.
وفي 17-10-1415هـ، كتب إليّ تغمده الله بشآبيب رحمته: (أعياني ما أعيا الآخرين. لم أتبين ذلك إلا بعد أن أوقفتني التجربة بخطاي إلى الوراء أتذكر، فقالت لي سارحة الأمس من الذكريات وراء البعيد: أضناني المسير فعد بي من النهاية إلى البداية، لقد فرغ قدحي فهل بقي في قدحك شيء؟ فأعياني الجواب لأن الشيخوخة فقدت كل شيء، حتى الجواب عن رسالتك - عزيزي - المؤرخة في 17-7-1415هـ، التي رافقها كتابك القيم - جاء متأخرا. كتابك يا عزيزي - أثر الشرق الإسلامي في الفكر الأوروبي خلال الحروب الصليبية - تصفحته بلهف فرأيتك فيه كما كنت ماشيا وحدك تحاول أن تزحزح الضباب عن عيون أصابها الرمد في أيامنا هذه لا ترى ولا تقرأ، ها أنت ذا عبدت لها الطريق وأضأتها بشيء من نور عقلك وجهدك).
وبروح فلسفية شفافة قال: (ولو أن كل إنسان من أمتنا الكبرى اهتدى وسط الركام والضباب الكثيف الموروث إلى عقله لرأى أبعادا في نفسه وفيما هو خارج النفس، ونادى عليها العمي أن أبصروا ليثمر كدحكم وتثمر أشجاركم، ولكننا أمة ألفت الكسل العقلي والروحي فبقيت تعاني الجوع والظمأ في عالم مشبع بالري، هناك على صخور القمر شرب كأس انتصاره على الكسالى). رسائلك أيها المبدع شواهد تحمل بصماتك منقوشة بخط الزمان، محفورة في ذاكرتي لأن صدى صوتك ما زال يسكن مسمعي، متخيلا صورتك المؤطرة بوقار لا كبر فيه، وهيبة لم يخالطها زيف، ووطنية صافية من كل ريب. أيها الشيخ الجليل.
أما على الصعيد الإنساني فحديث يطول، ولكنني أذكر هنا أن زوجة لجار عزيز في حينا، أصيبت بمرض السرطان، وأراد زوجها أن يدخلها في مستشفى الملك فهد، وأمام هذا الأمر الملح أرسلت خطابا إلى معاليه أشرح فيه مأساة هذه الأم رحمها الله، فقيل لي إنه في لندن، ولكن (الفاكس) سيعاد إرساله إليه. وسريعا جاء الجواب، وخوطب المستشفى المعني. أسوق هذا المثال البسيط لأنه شاهد على نبله وسرعة تجاوبه وتقديره لظروف الناس الذين لا يعرفهم. لقد وظف جاهه ووجاهته في تحقيق مطلب أو رد حق، أو حل مشكل، أو مكافأة من يستحق المكافأة. وهذا لعمري ما ينتظر من ذوي النفوذ فالذكر للإنسان عمر ثان.
ذلكم هو صاحب المعالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري، العلم الوطني، رفيق درب المليك، المخلص الأمين، الأديب الذي شغل الناس بأسلوبه كما شغلهم المتنبي بشعره. شجرة وارفة أظلت القريب والبعيد وذا الحاجة والملهوف. اللهم ارحم عبدك عبدالعزيز، وتقبله في عليين مع الذين أنعمت عليهم وللجميع تحاياي.