سعود عبدالعزيز الجنيدل
من المناظرات التي تسببت في موت أحد المتناظرين تلك المناظرة المسماة «المسألة الزنبورية».
هذه التسمية- كما يعلم الكثير- أطلقت على المسألة النحوية التي جرت بين شيخ اللغويين وسيدهم « سيبويه» وزعيم المدرسة الكوفية» الكسائي».
المسألة باختصار:
إن سيبويه- معنى سيبويه رائحة التفاح وهو اسم فارسي- قدم على يحيى بن خالد البرمكي في بغداد، وجرت بينه وبين الكوفيين عدة مسائل، ثم جاء شيخهم الكسائي، وسأل سيبويه سؤالا، كيف تقول : كنت أظن أنَّ العقرب أشدُ لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟ - لمن لا يعرف النحو، فالاختلاف في قوله» هي» بالرفع، أو «إياها» بالنصب- فقال: سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب، فقال الكسائي: أخطأت، بل يجوز الأمران، فاختلفا، فقال يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟ فقال الكسائي: هذه العرب ببابك، وهم فصحاء العرب، وقد قنع بهم أهل المِصرين، فقال يحيى: قد أنصفت، فلما سألوا العرب، وقفوا مع الكسائي، ورفضوا كلام سيبويه.
هذه القصة كما وردت في كتب النحاة، ويأتي في بعض الروايات ما يلي:
أن سيبويه طلب منهم أن يقولوا بلغة النصب، أي» فإذا هو إياها»، فلم يستطيعوا لأنهم عرب أقحاح، لذلك لم يقدروا على اللحن.
لدي تعليقات على المسألة الزنبورية:
أولا: إنَ الحق -كما هو واضح- مع سيبويه، ويرى جماهير أهل العلم أن السياسية تدخلت لأن الكسائي كان ذا حظوة عند البرامكة.
ثانيا: إن قولهم إن سيبويه لما طلب منهم قول وجه النصب» فإذا «هي إياها»، ولم يستطيعوا لأنهم عرب أقحاح!، هذا الكلام من وجهة نظري ليس صحيحا، لأن العرب، وحتى لو كانوا عربا أقحاحا فإنهم يلحنون، وإليك عدد من الأمثلة:
-يذكر أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- مرَّ على قوم يسيئون الرمي فقرعهم، فقالوا : إنا قوم متعلمين فأعرض مغضبا، وقال : والله لخطؤكم في لسانكم أشد علي من خطئكم في رميكم.
-ذكر القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه، أبياتا لشعراء يحتج بشعرهم، وقد لحنوا...
- قول ابنة أبي الأسود الدؤلي، حين سألت أباها» ما أحسنُ السماءِ؟ قال: أي بنية: نجومُها، فقالت: إني لم أرد أي شيء منها أحسن؟ وإنما تعجبت من حسنها، فقال : إذا فقولي: ما أحسنَ السماءَ.
والكتب العربية مليئة بالشواهد على ذلك.
ويقال إن سيبويه لما سمع حكم العرب يوافق كلام الكسائي استكان، فقال الكسائي كما تروي الكتب:» أصلح الله الأمير إن الرجل» أي سيبويه» جاء ليطلب مالا، فلو أعطيته شيئا»، وهذا ما جعل سيبويه يخرج مغتما، يتوارى من الناس مما ألم به، متوجها إلى بلاد فارس، ولبث فيها أياما، بعدها توفي، وقد أنشد هذه الأبيات قبل موته:
يؤمل دنيا ليسعى لها
فوافى المنية دون الأجل
حثيثا يروّي أصول الفسيل
فعاش الفسيل ومات الرجل
والحقيقة أن سيبويه شغل الدنيا بكتابه الموسوم» الكتاب» الذي قال عنه العلماء:» من أراد أن يؤلف كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي»، ولم يأت أحد بمثله إلى وقتنا الحاضر، رحم الله شيخ اللغويين، الذي توفي والله أعلم بسبب المناظرة- الذي يرى كثير من العلماء أن الحق كان مع سيبويه-.
كلي أمل أن يكون مبدأُنا في المناظرات مبدأ الإمام الشافعي- رحمه الله- الذي قال:» ما جادلت أحداً إلا وتمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه».
يقول أبو تمام:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا
نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا
عذب تحدر من غمام واحد
أو يختلف نسب يؤلف بيننا
أدب أقمناه مقام الوالد
هذا ما نتطلع عليه...