سهام القحطاني
سيظل التنازع بين الديني والعلماني مثار جدل في أيهما الأقدر على مواكبة نهضة الفرد والمجتمعات، وأيهما في المقابل من يخضع لزمنية الصلاحية والغياب. لكن ما حقيقة مصدر هذا التنازع؟.
عندما نقف أمام ثنائية «الديني والعلماني» فنحن لا نستطيع تجاوز العلاقة الاستدلالية لطرفي الثنائية، تلك العلاقة التي لا شك أنها تستحوذ على مساحة كبيرة من الخلاف المفاهيمي لكلا الطرفين، كما أن الخطأ الشائع لبعض المفاهيم وما يحيط بها من غموض وتداخلات استدلالية أسهمت بشكل كبير في تعقيد تلك العلاقة بين المفهومين.
إن أول دال يقف عائقاً أمام توافق هذين الطرفين هو «دال الكفر والإيمان» وهو دال بلا شك جاذب للاصطفاف؛ فالخاصية الدينية الغالبة على المواطن العربي هي عنصر جذب ذلك الاصطفاف، وتلك الخاصية بدورها داعمة لسلطة رجال الدين باعتبار اقتران الضرورة بين رجل الدين وما يمثله من ثقة دينية يؤمن بها المواطن العربي وفق معايير العصمة والتنزيه اللذين ينصران داعم الديني دوماً.
وبذلك يدخل المتلقي العربي هذه المعركة باعتباره هو من يمثّل «دال المُناصِر» ومن هنا تبدأ المعركة بين الطرفين من خلال أيهما الأقدر على جذب ذهنية المتلقي وأيهما الأقدر على الهيمنة على قناعاته، لتصبح المعركة ثلاثية الأبعاد أو معركة ذات حضور جماهيري.
تتربى الذهنية العربية على أن «الدين هو أساس حياة الفرد والمجتمع، وأنه الحل الحقيقي لأي مشكلات تواجه الفرد والمجتمعات»، وهذه القاعدة بلا شك صحيحة ولا مجال للشك فيها أو المجادلة.
لكن ما يغيب عن هذه القاعدة بقصد من قِبل «حراس الديني» هو عندما شرع الله سبحانه الدين سانده بالعلم
والمعرفة لأن الدين لا يغلب بالاستخلاف إلا من خلال العلم والمعرفة، ولأن العلم والمعرفة يشدان عضّد جوهر الدين بالثبات والديمومة، وبذلك يصبح العلم النصف المكمّل لقيمة الدين وفاعلية جوهره.
وهناك من رجال الدين سواء من القدماء أو المعاصرين من آمن بثنائية الديني والعلمي، وأن التفكير العلمي
والتجريبي هو مساند قوي لتعزيز جوهر الدين ومبادئه لديمومته الاستخلافية. إن أزمة الديني والعلمي هي أزمة موضوعة من قِبل الطرفين وليست حقيقية، وأنا أقصد بالحقيقية أنها لا تستند إلى أي دليل تشريعي مانع للقاء هذه الثنائية واندماجها.
فلا خلاف أو تقاطع بين الدين والعلم، وهو دليل مثبت بالقطعية من خلال آيات القرآن الكريم، لقد تفهم واستوعب المسلمون الأوائل لقيمة العلم والمعرفة الحضارية، وهذا الاستيعاب والفهم يمكن تلمسه من خلال حركة الترجمة التي قام بها العرب والمسلمون والتي كانت بمثابة قاعدة أولية للحضارة العلمية والفكرية للإسلام، وما يُحسب للمسلمين والعرب الأوائل من الفاتحين أنهم تركوا آثار الحضارات من كان قبلهم، ولم تصدر فتاوى التخريب التاريخي بوجوب إزالة تلك الآثار من باب أنها بقايا الكفّار، رغم وجود الصحابة رضوان الله عليهم.
إذن العلاقة بين الإسلام والأثر التاريخي ليست علاقة كفر وإيمان، إنما علاقة تفكّر وعظة وقيمة وجدانية متعددة الجوانب والتأثير.
وبذلك فالمسألة هنا تتجاوز «ضرورة الدين» ورابط آثر الكفر، التي نسمعها اليوم من الذين يفترون على الله
ورسوله وصحابته بهتاناً وزوراً ويتحركون في مسار هيمنة الفكر الأحادي، يهدمون ذاكرة التاريخ بدعوى أنها بقايا كفار وحافز للكفر.
إن الإسلام دين العلم والعقلانية وليس كما يروّج له المتطرفون الدينيون دين الطقوس العمياء والشعائر المتوارثة بالتقليد.
لقد قرن الله سبحانه وتعالى الهداية والإيمان بالتفكّر والتبصّر والتأمل في مخلوقات الله وقدرته على الخلق وإبداع صور الإنسان وكافة المخلوقات.
إن هذا التفكّر والتأمل - جناحا العلم - هو الذي يقود إلى الإيمان والهداية، كما أنه مُعزز لذلك الإيمان ومُحصّن للهداية.
لقد قدّر الله العلم للإنسان كما قدّر له الإيمان؛ لأن العلم كما الإيمان كلاهما مُرشِد لله سبحانه وتعالى، ومن آمن بأحدهما دون الآخر أضرّ بالقيمة الحقيقية لهذه الثنائية التي صنعت أعظم حضارة علمية في التاريخ الإنساني، فالإيمان يُكسب العلم والعلم يُكسب الإيمان، معادلة حقة وحقيقية وأي اضطراب يعتريها اليوم لا يُشكك في حقيقتها إنما يدّل على فساد نية من يتحرك بها، فساد بالتقادم كان حاصله هيمنة اللاّعلمية على الذهنية العربية.
لكن كيف تمت هيمنة اللاّعلمية على ذهنية العربي الذي أورثته الرجعية والتخلف وجعلتها معادِلاً للكفر أو الغواية على أقل تقدير؟
وهذا الأمر تمّ من خلال مرحلتين تاريخيتين، وقبل ذكر تينك المرحلتين علينا التأكيد على قاعدة مهمة ها هنا وهي أن البعد عن جوهر وروح وحقيقة الدين هو الذي يُورث التخلف والرجعية الحضارتين، والجوهر لا يستلم قيمته من الطقوس والشعائر الموروثة إنما يستلم قيمته من الفائدة التي تعمّ الفرد والإنسانية بالصلاح والخير. فعندما ابتعد العرب والمسلمون عن حقيقة الدين وتركوا الدين لرجال يصرفونه كيفما شاؤوا يركبون اعتقادهم
وأفكارهم فوقه فيحللون الجهل بدعوى أنه داعم للعروة الوثقى للدين ويحرمون التنوير بدعوى أنه جالب للكفر والفجور حتى تفشى الجهل في المجتمعات العربية، ليتسلم العصر الحديث العرب من خلال المرحلة الثانية تركة مثخنة بالتخلف والرجعية وأفكار ما أنزل الله بها من سلطان، زاد الاستعمار الغربي تلك التراكمية حتى أدخل الأمة في سبع ظلمات.
وهذه التركة سواء التاريخية أو الاستعمارية بأفكارها المشجعة على الجهل والرجعية كونها داعمة للدين ومحذّرة من أي تنوير كونه داعماً للتغريب وتثبيته في الأراضي العربية، وترسيخه كصورة من صور موالاة الكفّار، رسم أول خط صراع بين الأفكار الدينية وطبقة المفكرين الجدد من العرب في هذه الفترة أو من أُطلق عليهم فيما بعد بالتنويريين العرب.
هذا الصراع الذي دفع بعض التنويريين العرب إلى الدعوة إلى فصل العلم عن الدين أو المطالبة بمدنية خالصة تحيط بالمجتمعات العربية بدلاً من الدين والذي يترتب عليه إخراج رجال الدين بموروثاتهم من معادلة التأثير الاجتماعي وتجريدهم من أي سلطة تحرك الذهنية الحاكمة والذهنية الجمعية، وهنا برز مصطلح «الظلاميّ» مقابل التنويري.
وهذا التطرف التنويري من خلال توصيف الديني بالظلامي أحدث صدمة انفعالية لدى رجال الدين الذين ظلوا طوال التاريخ الإسلامي هم المسيطرون الأوائل على ذهنية المجتمعات العربية، وهي صدمة شكّلت أول مسوّغ للعداء بين الدينيين «الظلاميين» والتنويريين.
إن توصيف الديني بالظلامي عقّدت العلاقة بين التنويري العربي وبين الديني، وجعل كل تنويري في مرمى الشك
والزندقة والتكفير، حتى أصبح توصيف التنويري معادلاً للزندقة والتكفير، ولا شك أن السيرة التاريخية العالمية لمصطلح التنويري أسهم بشكل كبير في تحديد موقف الدينيين العدائي من هذا التوصيف وأفكار أصحابه، وفي المقابل لم تكن هناك أي محاولة جادة من قِبل التنويري العربي لعربّنة المصطلح لتقريبه إلى الذهنية الجمعية وحتى وإن حدثت ذلك التعريب فغالباً يتم من خلال إطار ضيق تنظريّ نخبوي لا يصل إلى الذهنية الجمعية التي تمثل الجواد الرابح في السباق بين التنويري والظلامي.
إن التقابل المتعمّد من قِبل التنويريين بتوصيف الديني بالظلامي قد يجد له البعض حجة تعليلية، وخصوصاً المنتمين إلى «تيار التنوير الوسطي» إذ إنه حاصل تاريخ طويل من هيمنة الديني على الأمة العربية والإسلامية هيمنة ما أورثت العرب سوى التخلف والرجعية، هيمنة خنقت كل زاوية ضوء للعلم والمعرفة، كما يرى أنصار أصحاب هذا الرأي أن الاختلاف بين التنويري والظلامي ليس خلافاً على أهمية الدين وقيمته في حياة المجتمعات العربية، إنما الخلاف يتجاوز جوهر الدين ليخرجه من المعركة لتكون بين الأفكار الدينية المركبة فوق جوهر الدين بالادعاء والتأويل الفاسد.
وهذا الرأي للتنويريين الوسطيين العرب لم يمنع من ظهور تيار التنويريين المتطرفين الذي يحمّلون كل رجعية وتخلف وجهل عربي إلى جوهر الدين وقيمه معاملة أسوة بموقف التنويريين الغرب الذين نادوا بإسقاط هيمنة الكنيسة
وفصل تأثيرها عن الحياة العامة، وهي مقاربة بلا شك غير صحيحة في عمومها وتفاصيلها، وهذا التطرف التنويري بدوره شكّل طبقة جديدة من الظلاميين الذين يدّعون التنوير والنهضة.
وهنا بدأ صراع المحاصصة الفكرية بين ظلامي يتحرك باسم المقدس وظلامي يتحرك باسم العلم، وكلاهما ما أنزل الله بهما من سلطان.