سهام القحطاني
هل الفكر هو انعكاس للهوية، انعكاس للانتماء، انعكاس لعقيدة وإيمان المرء؟.
تلك الأسئلة غالباً ما تمثل مصدر جدلية الصراع بين الديني وحرية الفكر، أقصد كلية الاندماج بين عقيدة المرء وما يطرحه من فكر، وهي كليّة غالبا ما تُثير استحقاق المساءلة والمحاكمة.
لكن يظل الاعتقاد بمتلازمة كلية الاندماج بين عقيدة المرء وفكره تلك موضع شك لدى العقلاء، لأن حرية التفكير والإبداع ليست عقيدة أو يجب أن لا تكون كذلك؛ إنما هي وسيلة بحث معرفي ومحاولة لإعادة صياغة منطقة الأشياء وعقلنتها كما أن التفكيكية لا تحمل بالضرورة نية مقصودة بإضرار الجوهر، لكن هذه الإشكالية؛ أقصد ملاحقة كلية الاندماج بالمساءلة كانت غالباً حاصل تعمُّد التوحيد بين الجوهر ومرفقاته.
نحن نتفاوت في درجات الفهم كما نتفاوت في طبيعة المصادر التي كونت فهمنا للأشياء.. وبذلك فحاصل فهمنا جميعاً ليس على قدم المساواة، وليس بالضرورة أن نتساوى جميعاً في ذات درجة الفهم، فالمسألة هنا عادة ما ترجع إلى طبيعة استعداد الفرد المعرفية، والبيئة المُحفّزة على اكتساب المعرفة ثم خلقها، فالمفاضلة هنا هي قيمة تأكيدية للمبدأ وليست خاصية مُحرّضة للتمييز، كما أن المفاضلة لا تندرج في باب التمييز إلا في حالة القصدية المتعمّدة لغياب المساواة في تكافؤ الفرص سواء على مستوى التهيئات أو البيئة المحفزة، لتظل طبيعة الاستعداد المعرفي للفرد هي الفاصل لتفوق الفهم، هذا التفوق الذي يحسر شعور الفرد بالرضا المنطقي للرؤى والمتصورات الجاهزة، هو الذي يدفع صاحبه إلى إعادة تنظيم الرؤى المنطقية للأشياء والحقائق، إن التفكيك الرؤيوي لتنظيمات الأشياء غالباً لا تقصد محاكمة النهايات إنما تركز على حقول التشكيل والعلاقات ومعادلات التوافق والاختلاف والخلاف.
إن الكيفية هي التي تحظى باهتمام مجال تداول حرية الفكر غالباً لا النهايات.
كما أن المسألة هنا متعلّقة بطبيعة الفهم الموروث وتوثيقاته، إن فكرة إعادة تجديد التوثيق بما يتناسب مع كل فترة نهضوية متطلب حضاري يتوافق مع طبيعة الإنسان التي وصفها الله تعالى «علّم الإنسان ما لم يعلم» -العلق،5-.فقدرة الإنسان على التعلّم هذه الكرامة الممنوحة له من الله سبحانه وتعالى هي التي تنمي قوته وقدرته على تحطيم أفكار عتيقة تحولت بالتقادم إلى آلهة تُعبد من دون الله.
أو حتى إعادة تفكيك تفسير الأفكار الكبرى، لأن تفوق الفهم كما قلت يدفع إلى انحسار مساحة الرضا عن الموجود الفكري بتوثيقاته الراسخة، وهو انحسار بلا شك يُزعزع من سلطة هيمنة المعرفة التوثيقية، وهذه النتيجة هي التي تؤدي إلى الصراع الديني مع حرية الفكر والإبداع.
وهنا نتوقف عند «الحيل الدفاعية» للديني لإعاقة حرية الفكر أو جرّها إلى «دائرة الإثم والخطيئة».
إن تعليق الموقف الفكري للمرء باعتبار أصل هوية الفرد وانتمائه وعقيدته وإيمانه، أول الحيل الدفاعية للديني، أما مقدار الاستفادة من هكذا اقتران فمصدره شرعية متابعة مساءلة المفكر ومحاكمته، فكلما ركزت الحيلة الدفاعية للديني على ربط حاصل فكر المفكر بأصل هوية معتقده نجح في التحريض الشعبي على المفكر وحوّلت أفكاره إلى قضية رأي عام.
ونجاح هذه الحيلة يكمن في أمرين؛ أولهما النبذ الشعبي لكل مجدد فكري، وثانيهما استباقية الرعب التي يقدمها الديني لكل من تسوّل له نفسه بالتجديد الفكري أو محاولات تفكيك الأفكار الكبرى.
وهنا أريد أن أوضح في عجالة الفرق ما بين «الدين والديني» فالدين هو جوهر الأشياء في تجريدها، في حين أن الديني هو مجموع التأويلات والتوثيقات المفسرة لأصول جوهر الأشياء في تجريدها، وبذلك فالديني هو «فهم بشري لأصل الجوهر» قابل للصواب والخطأ.
وهو أمر يخرج الديني من إطار المقدس باعتباره أصل الجوهر.
وهكذا يتضح لنا وفق ضابط التفريق أن المقصود بالفكر ها هنا ليس ما يحتوي تطابقاً وتوافقاً مع طبيعة الجوهر الانتمائي للذات، لأن هكذا أمر غير مفضيّ لجدلية أو صراع؛ إنما المقصود هو ما يتعارض مع ما يتوهم أنه جوهر انتماء لذات الجماعة أو مقدسهم.
وهو ما يجعل حرية الفكر وجهاً لوجه مع الديني لا مع الدين.
ولا شك أن هذا الخلط الشائع إحدى الحيل الدفاعية التي يستند عليها الديني للاستفادة من أحادية الاقتران بالمقدس، وذلك الاقتران المتوهم تنقل معركة حرية الفكر من الديني إلى الدين باعتبار «الاقتران بالمعادِل»
ومن هنا تبدأ أولى إشكاليات جدلية الصراع بين الديني أو المقدس وحرية الفكر.
لعل الأزمة الأولى في هكذا جدلية هي «الخلط بين المسلّمات وما يدخل ضمن قيمة الحقائق». وهي حيلة دفاعية أخرى يستند عليها الديني.
ليست كل مسلّمة حقيقة، وليست كل حقيقة مسلّمة وهذا التقدير لتعارض العلاقة بين المسلّمة والحقيقة ينبثق من ثنائية الثابت والمتحوّل، فاعتبار المسلّمات بالأصل أو التجاور يضفي على المسلّمات خاصية التغير والتغيير وفي هذا خطر على أصل الجوهر، الذي يجب أن يتصف بالتجريدية، واعتبار الحقائق مسلّمات بالأصل أو التجاور تحوّل الحقائق إلى جوهر مُلزم بالإثبات والتثبيت، وذلك فيه إعاقة للنمو النهضوي والحضاري لأي فكر؛ لأننا سنجد أنفسنا أمام «قوالب فكرية مسكوكة» محاطة بالتقديس. وبذلك تُصبح كل «حقيقة» هي مُسلّمة، وتتسع الدائرة بالتفريع والمُترتب عليه، حتى نصل إلى مدونة عريضة من المقدّس الفكريّ الممنوع الاقتراب منه أو مناقشته أو المقاربة به أو عليه.
وإشكالية تعريض مدونة المقدس أمام حرية الفكر تكمن؛ بأنها مُلغيّة لأصل الاختلاف والتجديد والإضافة، ومولّدة للتطرف الفكري، وقمع الفكر ومحاكمته.