إن الشاعر المدرك لحركية التلفظ الشعري لا يقف عند مجرد حدود كلماته التي يملؤها في قالب صُنع مسبقا «العروض»، ولا يحاول القفز بحرف «الروي» جنبات أبياته، غير آبه بما بينه وبين المتلقي من نظام تواصلي محتاجٍ إلى فطنة ومهارة؛ فالأمر أعمق من مجرد موهبة!
والمطالع في الديوان يجد أن الرشيد حاول في بعض قصائده الميل نحو المتلقي وإخضاعه للمقام التواصلي من خلال عتبات النص، مع أن هذه المداخل الموجِّهة للقارئ قبل شروعه في النص ليس شرطا أن تخدمه في تواصلها، بل قد تصرفه عن البدء في تلقي النص من أساسه؛ لسببٍ ما. وهنا نطرح تساؤلا مهما: هل الإضاءة قبل تقدمة القصيدة مكانها دائما تحت أعلى العنوان الداخلي؟! وبغض النظر عن إجابة هذا السؤال ومكانه من الديوان، فإن النص الحُرّ من التوجيه المسبق، له الفضاء الأرحب من التأويلات التي يعيشها القارئ إلى آخر تفعيلاته. فمعها تتكشف الغايات، وتتجلى المقاصد.
وإذا ما أردنا أن نبحث عن المقام التواصلي في سياق أعمق من قضية العتبات، فإن المتتبع للبروكسيميا/proxemique المعنية باستعمال الفضاء لأهداف تبليغية، تظهر وتخبو في الديوان احتكاما إلى معطيات معادلة التكوين النصي الذي رسمَ مداه مبدعُه. وهذه الرؤية لاشك هي ألصق بالسرد من الشعر. لكن الشعر يقاربها أحيانا من حيث الروح التي تتلبسها القصيدة؛ لأداء موقف درامي قوامه الحوار. حينئذ يحتفظ الشعر بجلبابه، ويتذكر مشيته.
ومن النصوص التي هيمن استخدام الفضاء فيها على المتخاطبين، نصٌ بعنوان: «التماس من شاعر بلاط مُقال»؛ إذ يتجلى في حوار لشاعرٍ مع من أقاله من مكانته، وأنزله من علوه. ولا حجة للشاعر سوى توظيف الفضاء الذي اختلط به؛ لعله يعود إلى ما كان عليه من سمو. وهو حوارُ مستجدٍ يطلب الوصول إلى الرضا المتمنع، الذي ألبس المخاطَب/ صاحب البلاط دثارَ الصمت إلى نهاية النص. وهذا خلق انحباسا للزمن، يلحظه المتلقي مع شخصية النص/الشاعر في موقفه الشعوري؛ أملا في معرفة الجواب، وانتظارا له.
يقول:
يا سيدي الحجاج
اشتقتُ للهراوة النبيله
اشتقتُ للبطش الكلامي بكلِّ شاردٍ عن قيمِ القبيله
...
لستُ أنا بشاعر البلاط
إني أنا البلاطُ والرخامُ والبساط
إن وجودَ مسافة بين الشخصيتين إعمالٌ للفضاء بحفظه تراتبية ما بينهما من ضدية المنزلة، عَرف معه الشاعر المستجدي حدودَه المكانية مع صاحب البلاط. فلو جاوزها انهار المقام التواصلي بأفعاله الكلامية، ثم فشل في بلوغ مقصده. وعلامة هذا قوله: «اشتقت» فهي وحشة آلمته؛ لابتعاده. ويظهر الحفاظ على إبقاء تلك المسافة بحذر، عندما لوّح بشوقه لِما يُنْفَرُ منه/الهراوة. لكن نبلها المكتسَب من صاحبها جعلها مطلبا نبيلا، ومرتقى صعبا أضاعه. ويوغل الشاعر المستجدي في تبليغ فكرته بأدوات محيطه/فضائه، فها هو يُغرِق إلى حد الاندماج، بأن جعل نفسه مكانا لعبور الأقدام على البلاط النفيس الصلد، أو البساط الرخيص اللين؛ إشارةً منه إلى طاعته المطلقة مقابل القرب/الرضا.
هذه الطواعية تعود بنا إلى ما يسمى بـ»لذاكرة الفضائية» التي خلقها الشعراء على مرِّ العصور، بحضورهم البلاط، وملازمتهم الأبواب. ويعلو صوتها فيما لو اشتدت الخصومة بين المتنافسين؛ لتمثيل سلطة، أو الفوز بحظوة. لذا نجد «اللسان البروكسيمي» المعبِّر عن حدود المسافة، المتكئ على مرجعية ثقافية مشتركة بين أطراف الخطاب في النص من الداخل، أو باث النص ومستقبله من الخارج، قد أقرّ بدونية المرتبة التي ينطق به الشاعر المستجدي من خلال حكمته المسوّغة له احتمال المتناقضات.
يقول:
تسألني عن حكمتي؟
لابد في الحياة من نعاج
واستخدام الفضاء لأهداف تبليغية، لا يقف عند مجرد توظيف المحيط لتعميق معنى المعنى، بل هو حراك ثقافي يشعله المبدع بين شخصيات نصه. وبقدر براعة المبدع في استدعاء المكوِّن الثقافي ودفعه في تضاعيف قوله، تتحرك الدرامية بزوبعة صغيرة تنداح دوائرها حتى يجد المتلقي نفسه وسطها انجذابا، وتفاعلا، وتقييما. وهذا ما نصَّ عليه (إدوارد هال) عندما أشار بأن كل كائن حي له محيطه الفيزيائي الخاص المفصول عن المحيط الخارجي. ولا شك أن الإنسان لديه من الإدراك ما يعي به حدود محيطه الخاص ومحيط مجاوريه. ورسْم هذين المحيطين، له الكثير من العوامل المؤثرة في ضيق أو اتساع دائرته. ودون إسهاب كان العامل الأشد هنا: علو مقام صاحب البلاط، الذي جعل الشاعر المستجدي يقف في مستوى واحد إلى جانب البلاط والبساط، بل واختيار فصيلة طيور مناسبة لمقامه؛ ليسوسها.
يقول:
يا سيدي علمني تشردي بعدك أن أكون سائس الدجاج
وأن أسير في ظلال الخوف والولاء
أنا طبيب الروح يا معلمي
يشخِّص الأدواء من ساعته لكنه لا يملك العلاج
أخيرا، فإن المطالع للديوان سيعيش هذا النوع التفاعلي بين قصائده بدرجات متفاوتة. في قصائد ا لتفعيلة على نحو أشد، مثل: (هكذا، مهند، الضاحك)، وعلى استحياء في العمودية، نحو: (وجوه رطبة، وجهات غائرة، سَورة انكفاء).
- محمد المشهوري
@ALMASHHORUI