رمضان جريدي العنزي
الرقص الدرامي فن تعبيري يستثمر حركية الجسد وأوضاعه التشكيلية، لينتج لغة حوارية مع الذات والآخر والوجود، في ضوء فرضيات دلالية ترمي إلى موضوعات أو مضامين درامية عدة، إيران تطبق هذا النوع من الرقص،
وقد وظَّفته بدقة متناهية وفق عدة عروض درامية بمثابة فواصل تعبيرية يراها ويشاهدها جل المتابعين لها والمهتمين بشؤونها وشجونها، إن إيران انتهجت نهجاً درامياً مغايراً فراحت تؤسس لعروض مسرحية تعتمد كلياً على الرقص والاستعراض اللذين ترافقهما المؤثرات الصوتية والموسيقية والحركية، وقد أسست لهذا الغرض ورش أعمال فنية ومجموعات وقواعد وأذرعة وأبواقاً، قدمت خلالها أعمالاً عديدة شواهدها في أماكن متنوعة.
إن العروض المسرحية الإيرانية مبنية على فكرة فنطازية مأخوذة من نص (التقية) ملخصه العمل الدؤوب على احتكار الآخرين والتسلط عليهم وفق خطط ممنهجة غاية في الدقة والتفكير والعمل المستمر والمستتر في احتلال الماديات والأرواح والسيطرة التامة على العقول، لقد اجتهدت إيران في توظيف الطاقات التعبيرية لأجساد وهياكل الراقصين لها الذين شكَّلتهم وزجَّت بهم في فضاء الأمكنة، ليؤدوا لها الدور الاستثنائي المطلوب وفق خطوط عامودية وأخرى جانبية، بينما إيران ذاتها منشغلة بتكوين أيقوني خطير يدل على رسم جذور الشجرة التي تبتغيها على أن تكون هذه الشجرة عملاقة وضاربة في الأرض لتحقيق مدلول قناعتها كرؤية مكانية وجغرافية للتسلط والهيمنة والاستيلاء. إن الهبوط والارتفاع والحركات البهلوانية الإيرانية المصحوبة بالاستعراضات الجسدية والمؤثرات الصوتية والموسيقية المختلفة والمتنوعة والإضاءات التي تتعامد وتتقاطع لتمتزج مع مكونات الأهداف المبتغاة بتداخل تشكيلية دلالات لونية تعكس الأجواء النفسية لها، وفي ذات الوقت تؤدي وظيفة التركيز على كتل المجاميع المحيطة والبعيدة الأخرى المرادة والمبتغاة، إن تمركز العروض الإيرانية على مجموعة من العناصر والأهداف والوظائف يتم وفق خطاب ديني سياسي تعبوي يتم فيه تغريب الأجساد والأرواح معاً، ومن ثم تحويلها إلى آلات تعبيرية انقيادية تتشكَّل وفق الضوء المنظور الذي له أبعاد دلالية تساعده المؤثرات والمحسنات الصوتية واللونية والحركية لتجعل منه ضوءاً له وقع الفعل تتحرك من خلاله تشكيلات درامية حسب الهدف والاتجاه والرؤية الفلسفية المرسومة له من وراء الستار. إن مشكلة هذه العروض والاستعراضات الإيرانية هي الإسهاب الحركي الواضح الذي جعل تداخل الوحدات التعبيرية فضفاضاً ومن دون ضوابط، إذ يمكن بالتفاتة بسيطة وعابرة رؤية العديد من هذه الوحدات الحركية دون الدخول في الحسبة التاريخية والمتاهات السياسية لحدود الدال والمدلول. إن المشهد المسرحي الاستعراضي الإيراني إذا استمر على ما هو عليه سيفقد القدرة على الإدهاش وعلى التحكم بين إيقاع النفس وإيقاع الجسد، لأن العرض أصلاً واهن وبه سقم جليل وعلة، وبالتالي سيخل بعنصر الدهشة، لقد بذل الإيرانيون مجهودات جبارة أفصحت عن قدرات نفسية وجسدية تم توظيفها وتنميتها للتأسيس لقاعدة انطلاقية تجتاز حواجز المنطق للهيمنة على الشعوب المحاذية والبعيدة عبر اللغة والضوء والجد والحركة والاستعراض والمغريات، وذلك في الدخول المطلق البائن في هموم وشجون وتفاصيل وجزئيات ومشكلات وأحاسيس تلك الدول وفق مشروع سياسي عقائدي هيمني مديد طموح كبير وخطير يفوق ما نراه وما هو حاصل الآن، إنه الحلم الكبير القادم الذي تعد وتخطط له إيران وفق سيناريوهات واستعراضات وفلسفات وأوجه كثيرة متعددة مختلفة ومتنوعة، بعضها نراه، والكثير الآخر لا نراه لأنه لا يزال يُطبخ على نار هادئة وخافتة جداً مع بقية الجوقات الحزبية النافرة حتى يجيء المذاق بنكهة إيرانية خاصة محبوكة بدهائية وعمق فكري وتخطيطي جبار، يناظر كثيراً مما نحسب له أو نتوقعه أو حتى نفكر به. تلك هي إيران تمارس أعمالها السياسية والعقائدية وفق رقصات غامضة، لكنها مكشوفة لقارئ فنجالها.