د. أحمد الفراج
كلما رحل عزيز، تعود بي الذاكرة إلى زمن الطيبين، إلى زمن ما قبل التصنيفات، إذ في ذلك الزمن الجميل، كان حسن الظن هو السائد، فلا أحد يحتكر الحقيقة، ولا أحد يفسق أحداً آخر، وحتى عندما يتفاقم الأمر، ويزل أحدهم عن الطريق، فإن النصيحة السرية، والكلمة اللينة الطيبة هي التي تكون حاضرة، ولكن كل هذا تغير، منذ أربعة عقود، فمع سيطرة تيارات الإسلام السياسي على المشهد، وتسييس الدين لأغراض حزبية، انتهى زمن الصدق، وبدأ عصر جديد من المزايدات باسم الدين، وأصبح محتكروا الحقيقة يزكون أنفسهم، ويلصقون كل خطيئة بكل من لا يلتحق بركبهم الحزبي، وهناك شواهد لا يمكن أن تنسى، والأدهى أن أتباع الإسلام الحركي ينعتون خصومهم بارتكاب هذه الموبقة، أو تلك. هذا، ولكن ما أن يرتكب أحدهم ذات الموبقة، إلا وينبري التيار برمته للدفاع، وسرد المبررات التي دعته لذلك، ولا يختلف في هذا كبيرهم عن صغيرهم، وما زالوا يمارسون هذه الانتهازية، والإقصائية الحزبية حتى يومنا هذا.
شن الحزبيون، ومنذ أن سيطروا على المشهد، حملات على كل جديد، ثم بعد فترة زمنية من الإرباك والفوضى المجتمعية، التي سببتها حملاتهم تلك، أصبحوا هم ذاتهم من يستخدم هذا الجديد، وبلا حياء، ولعل حكاية الفضائيات تختصر الكثير بهذا الخصوص، ولو كان كل ما يعلم يكتب ويقال، لسردنا من الحكايات ما تشيب له رؤوس الولدان، ويظل أسوأ ما يشوه حركات التأسلم السياسي هو صرف صكوك الغفران لمن يريدون، وتكفير من لا يريدون، ولا يفلح في ردعهم عن غيهم هذا لا دين، ولا أخلاق، ولا قيم، وحتى الاعتبارات الإنسانية تختفي من قاموسهم، فهم على الحقد والبغضاء نشؤوا، وعليه يسيرون، وحتى في حضرة الموت، ومشهده المهيب، وما يصاحب ذلك من حزن ورعب، تجد بذاءتهم حاضرة، لا تأخذ في اعتبارها حزن مكلوم، ولا صوت نائحة، بل هم مثل عشاق القتل، الذين تزداد شراستهم ورغبتهم بالمزيد منه عند رؤية الدماء، وقد أصبح تكرر هذه المشاهد مؤذياً للنفس السوية.
كان الناس فيما مضى، أيام التدين النقي، الخالي من الحزبية المقيته، ومن التسييس، إذا شهدوا على مخالفة شرعية صريحة، دعوا لأنفسهم، ثم لذلك الشخص المخالف بالهداية، أما في أيامنا هذه، فإن الحزبي المسيس عند ما يشك، فقط يشك، في سلوك أحد، فإنه يحاول فضحه، والتشهير به، ولو قدر الله وهداه للدعاء، فإنه يدعو لهذا المخالف بالهداية، دون نفسه، لأنه، وحسب ما يعتقد، لا يحتاج للهداية، وهذه التزكية الذاتية شائعة لدى حركات التأسلم السياسي، ولم تكن معروفة أيام التدين النقي، الذي كنا شهوداً عليه، ولكن ما يريح النفس هو أن المواطن، ومع الانفتاح، وموجات الضخ الفكري اللا محدودة، وتغير استراتيجيات الاستقطاب التقليدية، بدا يعي ويدرك كثيراً مما كان يخفى عنه عنوة، ولذا فإننا سنأمل أن يعود مجتمعنا كما كان: متديناً نقياً مترابطاً، دون تصنيف أو إقصاء، فاللهم حقق ذلك عاجلاً غير آجل.