محمد أبا الخيل
انتهت إجازة منتصف الفصل الدراسي ولم يعد كثير من الطلاب والطالبات لفصولهم في التاريخ المحدد، بل إن معظم المتأخرين لم يعد إلا بعد انقضاء أسبوع من الدراسة. عندما هممت بكتابة مقال عن ظاهرة التساهل في الانضباط في المواعيد والالتزام بالمسؤوليات وتعويد الأبناء على ذلك تذكرت عندما كنت طالباً في اليابان في منتصف سبعينات القرن الماضي، فقد كنت أخرج من شقتي الساعة السادسة صباحاً وأسير في اتجاه محطة القطار بين حقول الأرز، وكنت أمر في طريقي على معمل قص للصخور وأرى العمال في طابورهم الصباحي يؤدون تمارين الإحماء، وأتعجب من ذلك، فالطابور الصباحي في ذهني مقصور على طلاب المدارس، ثم أصل المحطة وأركب القطار وبعد ثلاث محطات أخرى أنزل في المحطة القريبة من جامعة توكاي وأسير صاعداً التل الذي تقبع الجامعة خلفه، ثم أصل لكفتيريا قريبة من مبنى معهد اللغة عند الساعة السابعة تقريباً أتناول فيها فطوراً وأتجاذب الحديث مع زملائي حتى تبدأ الدراسة في الساعة الثامنة، أحياناًً أكون محظوظاً عندما يصادف خروجي من الشقة خروج جاري الكويتي (بدر الجاسم) فاستقل معه سيارته وأوفر من زمن الرحلة نصف ساعة تقريباً، كنت حينها أدرس اللغة اليابانية استعداداً لدخول الجامعة، وكان معظم زملائي في معهد اللغة من البلدان الآسياوية، وكان بعظهم يتأخر في الحضور للفصل، وفي ذات يوم تأخر أكثر من نصف الفصل عن الحصة الأولى فتضجر المعلم من ذلك وترك الفصل، وفي الحصة التالية حضر المعلم ومعه مدير المعهد الدكتور (تشيباتا)، وقبل بداية الدرس تحدث مدير المعهد موجهاً كلامه للطلاب، ومما قال «الدراسة في اليابان مكلفة جداً، وكثير منكم كان بإمكانه توفير تلك التكلفة والدراسة في بلده، ولكن أنتم قدمتم للدراسة في اليابان لأن اليابان بلد ناجح وتريدون أن تأخذوا بعضاً من هذا النجاح معكم إلى بلادكم، ولكن عليكم أن تعلموا أن سر نجاح اليابان هو في أمر واحد وهو احترام المواعيد والانضباط في العمل وتحمل المسؤولية، فإن لم تأخذوا هذا معكم لبلادكم فإنكم لن تأخذوا معكم النجاح الذي تنشدون، لذا أتوقع منكم الانضباط في الحضور، ومن لا يستطيع ذلك عليه أن ينسحب من الدراسة منذ الآن». بعد تلك الكلمة لم يتأخر طالب واحد بالفصل خلال الأشهر الأربعة التي تلت ذلك.
الانضباط وتحمل المسؤولية هو في الواقع سر نجاح اليابان، وهو سر نجاح كل من يلتزم به، فالانضباط حافز للجدية والإنتاج وهو سلوك مؤثر في العمل الجماعي بصورة تظافرية، والانضباط ليس مقصوراً على الالتزام بالمواعيد والحضور والإنصراف من الدراسة أو العمل، فالانضباط يشمل الجدية في التعلم والتدرب واكتساب المهارات، والانضباط يشمل التقيد بأنظمة البلاد ومراعاة البيئة والنظافة العامة وحسن التعامل مع الناس وحفظ الحقوق وتأدية الواجبات على الوجه الأمثل، والانضباط سلوك يكتسب منذ الصغر ثم يصبح عادة لازمة لصاحبه، لذا يجب على الآباء والأمهات زرع الانضباط والإصرار عليه لدى الأبناء وعدم التهاون أو الإهمال في ذلك، فالنجاح الذي ينشدونه لأبنائهم لن يتحقق بدون الانضباط والقدرة على إدارة الذات واحتمال المسؤولية.
الانضباط بمعناه الشامل هو السلوك الأول المؤسس للحضارة والرقي، فلا نجد بلداً اليوم متقدماً إذا لم يكن الانضباط جوهر السلوك الاجتماعي له، بل إن البلدان التي يفتقر شعبها لدرجة مقبولة من الانضباط غارقة في الفوضى ومتخلفة في حضارتها وفاقدة لمقومات النجاح والتقدم، لذا علينا أن نعي أن الانضباط هو أهم ما يتعلمه الأبناء من أهلهم، فإن لم يتعلموه منهم فلن يتعلموه من غيرهم.