ياسر صالح البهيجان
الاستعمار الثقافي لا يقل قوّة وتأثيراً عن الاستعمار العسكري؛ إذ تسعى ثقافة دخيلة للسيطرة على الثقافة الأصيلة لدى مجتمع من المجتمعات من أجل مسخ هويّتها، وتحقيق مبدأ التبعيّة. وهو أسلوب متحايل،
تستخدمه الثقافة لاختراق الآخر بطرق غير مباشرة بهدف تضليل الأفراد الرافضين لأي تغيير يمسّ جوهر وجودهم وإرثهم الحضاري.
وكما أن هناك ثقافات متصالحة مع أخواتها المجاورات لها فإن هناك ثقافات أكثر عدائية ورغبة في التوسّع وتجاوز حدودها الجغرافيّة. ويعزز من رغبتها تلك أنساق ثقافيّة مضمرة، تزدري الآخر، وتظن أنه لا يستحق أن يستقلّ بذاته، وإنما عليه أن يكون جزءاً منها. وعادة ما يكون الاستعمار الثقافي منهجاً بديلاً في حال استعصى تنفيذ الاستعمار العسكري، إما لقوة الدولة الحاملة للثقافة الأصيلة، أو لمكانته ودورها الفاعل على المستويين الإقليمي والدولي.
الثقافتان العربيّة والفارسيّة تجسدان نمطين من أنماط الثقافة، الأولى متسامحة ومنكفئة على نفسها، وإن تصارعت فإنها لا تخوض معاركها إلا داخلياً، كحال حروبها الأهلية التي يحفل التاريخ بأحداثها المأساويّة دون أن تفكّر تلك الثقافة في أن تنقل صراعها إلى الثقافات الأخرى. في حين تتجه الثقافة الكسرويّة (نسبة إلى كسرى) لتصدير إرثها إلى الآخرين، وتحديداً المجتمعات العربيّة، طمعاً في الاستحواذ على عقول العرب؛ إذ لا تزال ترى أنهم بدو رحّل، كما يزعم عناية الله فاتحي في كتابه (تأثير الثقافة واللغة الفارسية في العربية)، بقوله: «التأثير السياسي والثقافي الفارسي مهيمن على أراضي البدو العرب من بلاد ما بين النهرين إلى مصر وحتى جنوب الجزيرة العربية واليمن».
محاولات الفرس في تصدير ثقافتهم لمحو الهويّة العربية تظهر في أبسط تمثلاتها عند تحضير القهوة العربيّة حال إضافة الزعفران الفارسي فوقها؛ إذ تبدأ القهوة بالمقاومة الشرسة للحفاظ على هويّتها في وقت يحاول فيه الزعفران أن يفرض لونه ورائحته على التقليد العربي الأصيل وسط ظروف مستعرة تأججه النار المشتعلة في الأسفل. وهذه الحالة وإن كانت سطحيّة في تشكّلها إلا أنها أنموذج لأنماط ثقافيّة أكثر تعقيداً، تصل إلى حدّ السعي لتصدير الفوضى الخمينيّة تحت غطاء الثقافة الثوريّة.
الأنساق المضمرة في المدونة الفارسيّة (كتاب الشاهنامة للفردوسي نموذجاً) تكشف عن ممارسة الفرس للتقية الثقافيّة؛ إذ تظهر علانية حالة التصالح والتعايش السلمي مع العرب، وتعمل في الظلام على هدم كافّة مقومات الثقافة العربيّة على محورين: الأول يتمثّل في التشكيك بأصالة ثقافة العرب، وأنها ليست سوى ثقافة مبنيّة على إرث يوناني وفارسي. والثاني يبرز في تحريك شخصيّات مأجورة وفاعلة داخل المجتمعات العربيّة للاحتفاء بثقافة الفرس، وإظهارها على أنها ثقافة أعلى قدراً من العربيّة، وأن لها جذورها التاريخيّة العميقة وتأثيرها على جميع الثقافات.
وأي ثقافة مهما كان مستوى تمنّعها تظل عرضة للتحوّل عندما تصطدم بالظرفيّة الانهزاميّة، وتتوالى النكبات على أبنائها، ويبدؤون بالانقياد للثقافة الهجينة بوصفها أسلوباً للتكيّف مع المتغيّرات المحيطة بهم، سواء أكانت متغيرات داخلية أو خارجية. ووتيرة تغيّر الثقافات باتت أسرع من السابق في ظل سيادة العولمة التكنولوجيّة والتقدم في مجال الاتصالات والنقل والبنية التحتية.
وإن كان الاستعمار العسكري يخضع للتخطيط المسبق للإطاحة بالسكان الأصليين المدافعين عن أرضهم وهويّتهم فإن الاستعمار الثقافي هو الآخر يجري تنفيذه انطلاقاً من نظريّة السلوك المخطط المتأسس على محو المعتقدات والرموز لدى المجتمعات تمهيداً لملء ذلك الفراغ بمعتقدات ورموز جديدة، تنسجم مع الثقافة الغازية. وهذا ما تتجه إليه الدولة الفارسيّة في الوقت الحاضر عن طريق زرع شخصيّات، تدين لها بالولاء داخل المجتمعات العربيّة، وتسعى إلى أن تجعل منهم مرجعيّات دينيّة واجتماعيّة وثقافيّة رغبة في تقويض المرجعيّات الأكثر انتماءً لوطنهم، وحرصاً على مقدراته وإرثه وحضارته.