قاسم حول
هو المخرج الإستوني «مارتي هيلد» الذي انتزع إعجاب كل ذائق لسينما جديدة، بكل ما تعنيه كلمة الجدة من معنى بدون ادعاء وليس من قبيل الإبهار لمجرد الإبهار. إنه فيلم «تقاطع الريح» الذي استطاع من خلال رسائل امرأة نفاها «ستالين» إلى سيبريا مع إبنتها تاركة زوجها في إستونيا.
ففي يوم الرابع عشر من يوليو\ تموز عام 1941 يصدر سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي السابق وزعيم البلاد «جوزيف ستالين» أمراً يتم بناء عليه إخراج الأسر الأستونية من منازلها ونفي بعضها نحو سيبريا. «إرنا» أم شابة يتم ترحيلها بعيداً عن زوجها إلى سيبريا رفقة إبنتها الصغيرة على مدى خمسة عشر عاماً، كانت تكتب خلالها الرسائل إلى زوجها تحكي فيها عن الخوف والجوع والشعور بالوحدة، دون أن تفقد الأمل في العثور عليه.
تبدو الفكرة بسيطة، وقد تبدو أنها تصلح لفيلم قصير قد ينتهي في عشرين دقيقة. لا أدري إن كان المخرج قد إستقى الرسائل من وثائق إنسانية موجودة أو من رواية أو قصة قصيرة، أو هو صاغها وكتبها على لسان «إرنا»، وصاغها في سبع وثمانين دقيقة.
كيف يمكن لمخرج مهما بلغت درجة عبقريته أن يفكر في أن يحوٌل تلك الرسائل بصوت إمرأة إلى فيلم سينمائي؟! ليس فيلما سينمائيا عادياً يمر على الشاشة، ولا فيلما سينمائيا في تاريخ سينما «إستونيا» أو تاريخ السينما الروسية القديمة والحديثة أو في تاريخ السينما في العالم . هو فيلم أنتج بجرأة مثالية باللونين» الأسود والأبيض» في عهد السينما الملونة والمبهرة. لكنه جاء أكثر إبهاراً من كل أفلام العالم قديمها وحديثها! الملونة أو بالأسود والأبيض منها!
لقد تجاوز المخرج الشاب وهو في مقتبل العمر الحياتي والسينمائي لغة السينما المألوفة فكسر المألوف من أجل قيم جمالية مختلفة تسحر من يشاهدها، فلقد جلست متأملا حالما مأخوذاً بهذه القدرة الخلاقة غير المسبوقة في عالم السينما لا في مستواها الفني والتقني ولا في جرأتها في طبيعة وأسلوبية الفيلم، وعبقرية التصوير التي نفذها المصوران «إيريك بولاما وجان لين». هل يمكن أن يمكث مصوران مع مخرج شاب وهما من عظماء القدرات التصويرية، مدة أربع سنوات ونصف لتصوير فيلم سينمائي واحد، إن لم يكونا مؤمنين بقدرة المخرج وحلمه المشروع وجرأة التجربة وعبقريتها!؟ وكيف يمكن لسبعمائة ممثل في الفيلم وأغلبهم من محترفي التمثيل وليسوا من الهواة أن يأتوا صاغرين أمام المصور وأمام الكاميرا وهم لا يمثلون! بل يتجمدون في حركة ثابتة كي تمر عليهم الكاميرا أو تلتف حولهم وتعبرهم في حركة إنسيابية تحتاج إلى مهارة غير عادية والكاميرا على «شاريو» لا أستطيع أن أتصور مسافاته وتزاوجه بين الحركة الطبيعية لمسار الكاميرا على الشاريو وبين الجوانب التقنية اللاحقة.. لقد حول المخرج الممثلين إلى أرقام، وزع عليهم الضوء وجسد عمق ميدان الصورة وبالأسود والأبيض ونحن نسمع صوت «إرنا» في رسائلها لزوجها ليسمعنا تارة مؤثر المكان.. غابة أو سفح جبل تنزل عليه الثلوج البيضاء مع صوت الريح يحرك ويسمع حفيف ورق الأشجار أو ربما صوت طير بعيد فيما الكاميرا تمشي وترحل في سيمفونية بصرية يندر أن حققتها كاميرا سينمائية من قبل!
الممثلون أدوا أدوارهم متجمدين في وضع ثابت كما التماثيل، تعبيراً عن رحيلهم الأبدي عن هذه الحياة، فهم كائنات ميتة وكائنة في ملابسها وكائنة في مكانها أينما كانت، وسط بقايا طاولات وبقايا أشياء صغيرة تدور عليها الكاميرا أو تمر عليها وعليهم في لوحات تشكيلية تخلب الألباب وتسحر الناظر. كاميرا مدهشة الحركة عرف المصوران كيف يستخدمون العدسات وكيف يوزعان الضوء على الشخصيات الميتة. المخرج «مارتي هيلد» يؤسس للغة سينمائية مختلفة تماما عن السائد وعن المألوف!
لم تكن هذه التجربة الفريدة في حركة الكاميرا وفي تأسيس لغة جديدة للسينما من خلال اللقطات التي تبني المونتاج داخل الكادر، فلقد سبق لهتشكوك أن نفذ شيئا مماثلا في فيلم «الحبل» وكررها السويدي بيرغمان، واليوم نفذها مخرج من ألمانيا في فيلم «فكتوريا» حيث نفذ فيلمه في لقطة واحدة استغرقت مدتها زمن الفيلم «ثلاث ساعات» لكن تجربة المخرج الإستوني «مارتي هيلد» تجربة مختلفة في جمالها في استخدام مفردات لغة التعبير السينمائية.
لم ينتبه المهرجان ولا لجنته التحكيمية من «هواة السينما» إلى هذا الفيلم.. كما عادة لجان التحكيم العربية في المهرجانات السينمائية، ولا حتى التنويه له في البيان الختامي للجنة التحكيم من «الهواة»! ما اضطرني ذلك للاعتذار منه باسم المشاهد العربي الذائق للسينما فبحثت عنه وعثرت عليه جالسا في مقهى المهرجان وأبلغته رسالتي وشكرته أنه قادني نحو مدخل لسينما جديدة ووعدته أن أكتب عن فيلمه هذا في المجلة الثقافية لصحيفة الجزيرة في المملكة العربية السعودية وأترجم له المقال كي يدرك أن المشاهد العربي لا علاقة له بالضرورة بمهرجانات السينما ولا بلجان تحكيمها التي تغلب عليهم سمة الهواية وتنتفي عنهم سمة «الحرفة» السينمائية، فيتم إهمال فيلم مدهش في جماله وفي فكرته، مثل «تقاطع الريح» الذي أسس للغة سينمائية جديدة في العالم .. لو كنت رئيسا للمهرجان لصنعت جائزة خاصة بالمهرجان تقدم للمخرج وتجلب الانتباه لفيلمه لأنه نموذج من فيلم لسينما المؤلف بكل ما يحويه التعبير من معنى! بل أمنحه جائزة تقدير من المهرجان لأنه وافق أن يعرض فيلمه هذا في مهرجان سينمائي عربي!