سلطان بن محمد المالك
أول وظيفة لي بعد تخرجي من الجامعة كانت قبل 27 عاماً ، وبمسمى باحث تسويق في صندوق التنمية الصناعية السعودي، وكان من أهم مهمات تلك الوظيفة هو جمع المعلومات من خلال الزيارات الميدانية من مصادر عديدة؛ ومنها المصانع والتجار والموردين في مختلف مناطق المملكة.
كانت حاجاتنا لتلك المعلومات بهدف استخدامها في إنجاز دراسات الجدوى الاقتصادية للمشاريع الاستثمارية الصناعية التي نعدها في الصندوق في غاية الأهمية. في ذلك الوقت، لم يكن الحصول على المعلومة هيناً، إذ لم يكن حينها هناك إنترنت ولا مراجع إلكترونية لدى الجهات المختصة بحيث يلجأ إليها الباحث، وبالتالي كان على الباحث القيام بزيارات ميدانية للمدن الصناعية في مختلف مناطق المملكة.
لا يمكن أن أنسى حجم المعاناة التي كنا نعانيها عند قيامنا بالذهاب للمدن الصناعية لجمع المعلومات. كان هناك حينها مكاتب صغيرة تحت مسمى إدارة المدينة الصناعية، وكانت هذه المكاتب بالتنسيق بين الغرف التجارية الصناعية في كل منطقة، مع وزارة الصناعة في حينه. وكانت تلك المكاتب هي المصدر الوحيد للمعلومة، بحيث إننا عند زيارتهم نحصل على بعض المعلومات عن المصانع ومواقعها، ولكن كانت المعلومات -في كثير من الأحيان- ناقصة وغير مكتملة لاسيما معلومات الاتصال بالمصانع ومواقعها.
وكانت الزيارات تتطلب منا مزيداً من الوقت والجهد للحصول على ما نريده، ومع ذلك فقد كنا نعد تقاريرنا ودراساتنا باجتهادات نوفق فيها احيانا ونخفق أحيانا اخرى.
الحديث أعلاه هو وصف للحال قبل ربع قرن تقريباً، وهي حالٌ تختلف -حتماً- عمّا نحن فيه اليوم، إذ تغير الواقع تماما حيث لم تعد تلك المدن الصناعية كما عهدناه في الماضي، إذ شهد الوضع توسعا ونموا كبيرين سواءٌ على مستوى عدد المدن الصناعية أو من حيث أعداد المصانع التي شهدت ازديادا بأكثر من الضعف خلال العشرة أعوام الأخيرة، ومازالت آخذةً في النمو.
وعندما قمت مؤخراً بزيارة لبعض المدن الصناعية، لاحظت الفرق الكبير والتطور اللذين حصلا في سير العمل لاسيما في توفر مصادر المعلومات للباحثين والمهتمين بإنجاز الدراسات والأبحاث عن القطاع الصناعي في المملكة. وأشير هنا إلى دور الهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية (مدن) في ذلك بعد أن أنيط بها مسؤولية الإدارة والإشراف على المدن الصناعية في المملكة، وما يمكن التنويه به في هذا السياق هو قيام «مدن» بإنشاء مبانٍ إدارية خاصة بكل مدينة صناعية في جميع مناطق المملكة.
لكن الملفت والإيجابي هو قيام «مدن» بتضمين مكاتبها خدمات أخرى متعلقة بجهات أخرى؛ بحيث يوجد مراكز خدمة متنوعة تجتمع فيها خدمات وزارة التجارة والصناعة والغرفة التجارية الصناعية، وخدمات المياه والكهرباء، وصندوق الموارد البشرية، وعدد من البنوك، كما رأيته في المدينة الصناعية الثانية بالرياض، بالإضافة إلى وجود بعض الجهات الحكومية الأخرى تيسيراً على المصانع والمستثمرين الموجودين بالمدينة لإنجاز خدماتهم من داخل المدينة دون الحاجة إلى مغادرة المدينة الصناعية.
وتقوم هذه الإدارات بتقديم خدمات متعددة ومتكاملة لكل من يزور تلك المدن، بالإضافة إلى إتاحة المعلومات التي قد يحتاج إليها المستثمرون أو الباحثون الاقتصاديون على الموقع الالكتروني لـ(مدن) والحصول على بعض المعلومات الأولية، أو تحميل تطبيق خرائط مدن، ومعلومات أخرى عن المصانع والعاملين بها.
ما زلت أعتقد كباحث أن من أهم عوامل تطوير أي قطاع يكمن في مدى وفرة المعلومات المتعلقة بنشاطاته وبالمستثمرين الفاعلين في محيطه، لذا فإن وجود قاعدة بيانات متكاملة بالمصانع الوطنية ونشاطاتها وعناوينها، بالإضافة إلى تعزيز نظام المعلومات الجغرافية الخاص بالمدن الصناعية في المملكة والذي يحتوي على كافة الخرائط والمعلومات المساحية الخاصة بهذه المدن الصناعية سيساهم بشكل فعال في سهولة التعرف على المدن الصناعية والفرص الاستثمارية المتاحة بها، والتعرف على أنواع الصناعات المستهدفة فيها، ومعرفة المصانع القائمة والتي تحت الإنشاء، والمرافق الخدمية والخدمات اللوجستية والمزيد من المعلومات والأدوات المساعدة التي ستضاعف من فرص الإقبال عليها.
إن التجربة المتطورة التي حدثت خلال العقدين الماضيين تستحق الإشادة والتنويه، لكن المهمة باتت أكثر إلحاحاً مع هذا النمو المطرد في عدد المدن الصناعية والمصانع في مختلف مناطق المملكة، ويتعاظم ذلك في ظل التوجه الحكومي الجاد في تنويع مصادر الدخل، وخصوصا أن الرهان حالياً في المملكة هو تعزيز العائد من الصناعة وتوطين التقنية بما يعزز من مكانة المملكة اقتصادياً أكثر من ذي قبل.