ألا تعلم من أنشد لها أغنيتي؟
تعال إذاً إلى الينابيع وانظر إليها بعينيك.
رسول حمزاتوف
البعض يكتب الرواية ليضع داخلها أبطالاً وبطولة.. آخرون يكتبون ليستدعوا أبطالهم الحقيقيين من الحياة، ويُدخلوهم أعمالهم الروائية، وكأنهم يقولون لنا «نحن لا نختلق الروايات والبطولات، فقط هي مخلوقة في حياتنا وذاكرتنا، ونحن فقط أوفياء لهم ولذكراهم.. نحن نكتبهم».
والروائية سناء الغامدي أرادت أن تكتب وتستدعي وتروي لنا شطراً من تأريخ قبيلتها وبطولات منطقتها في الماضي وفي الحاضر، وأن تدخلهم عالمها الروائي وذاكرتنا أيضاً؛ ولذلك صنعت مسرحاً كبيراً، اختطت به قرى وجبالاً وأودية وحصوناً وبشراً، والقليل من السكب، ثم أسمته وادي البراح.
وفي ذلك الوادي المفترض خلقت لنا أسماء وقبائل وقصص حب وخيبات وظلماً وعدلاً ومطراً ورعيان وعرضات، ثم جاءت بتأريخ وبطولات أجدادها من قبورهم وكتبهم وحصونهم، وقالت لهم احضروا!! لا ليعودوا إلى الحياة ولكن ليحضر معهم الغازي التركي الذي تجرأ وغزا بلادهم ذات تأريخ.. تحضره مرة أخرى كي يُهزم كما يهزم كل غاز أو عدو لهذه الأرض، سواء كان في الحاضر أو الماضي.. هذه الأرض المصانة التي لا يحكمها سوى أبنائها.
سناء الغامدي أسمت كل هذه العوالم التي شكلتها «عطر السكب».. السكب هذه الزهرة الجنوبية المنقوشة في الذاكرة؛ لتحمل الرواية خصوصية ونكهة المكان. والمكان هو البطل في الرواية.. وكل الأسماء والشخوص تحضر وتمضي عابرة لتبقى البطولة والبطولة للمكان المكان الذي تظن سناء وغيرها أنه لم يكتب ويوثق كما يجب، وهي تحاول أن تفعل.
أحداث الرواية قصيرة ومباشرة، ولا مكان للكثير من التفاصيل ولا للزائد من اللغة أو حتى الأحداث.. والأزمنة تتداخل من خلال اللعب على فنتازيا التخيل.. لكن ما من شيء غير طبيعي في هذه الأحداث عدا سر الأسورة، أسورة الذهب التي فضحت الممارسات الطارئة على القرية التي لم تكن تعرفها، والتي من خلالها أيضاً أعادتنا للماضي.. ماضي البطولة.
قد نضع هذه الرواية في إطار الرواية التاريخية، وهو ما حرصت الراوية على تأكيده من خلال وضع صور من بعض الوثائق أو المراسلات التاريخية عن تلك الفترة في نهاية الرواية.. لكنها قد تكون رواية اجتماعية أيضاً، وبالطبع يستحيل كتابة رواية جنوبية دون قصة حب؛ الحب قدر جنوبي.. حب عادة لا يكتمل ولا يصل، وليظل موجعاً كمسار خنجر.
«لقد كان حبنا كصنم التمر, صنعناه معاً.. عبدناه معاً، ولكنك تفردت بأكله».
هكذا كانت أمل تهمس لنفسها وهي المغدورة بفقد إبراهيم الذي خذلها وتزوج غيرها، وفشلت هي في زواجها وفي كل محاولات النسيان.
«عطر السكب» نجحت وباقتدار على الخروج من فضاءات العوالم الإلكترونية أو الافتراضية التي أصبحت مسرحاً للكثير من الروايات الجديدة؛ كون كل شيء ممكناً في تلك الفضاءات.. وأعادت الأحداث لمسرحها الحقيقي، مسرح الحياة.
وسأعترف هنا بأن هذه ليست قراءة للرواية، ولكنها إضمامة سكب لتلك العوالم القريبة لي، ولأني أعتقد أن في الرواية ما يستحق القراءة.
- عمرو العامري