سلوى بنت عبدالباقي الأنصاري ">
في الحياة أساسيات لا يمكن أن تستمر من دونها؛ والأساس هو أصل كل شيء ومبدؤه كحجر الأساس الذي يوضع إيذاناً ببدء إنشاء بناء ما.
ومن ضمن هذه الأساسيات «الحوار» وهو نقاش بين شخصين أو أكثر لتوضيح لَبس أو لإيصال فكرة، بهدف إيجاد حل وسط يرضي جميع الأطراف.
والحوار ثقافة تعالج قضية الاختلاف وذلك من خلال الكشف عن مواطن الاتفاق وتجنب مخاطر الشقاق والتفرق:
وإذا دنى وقت الحوار رأيتنا
نصطف إيماناً بأنك واعدُ
وتقاربت كل الرؤى وتوحدت
والكل يبني في صعيد واحد
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (رأيي صواب يحتمل الخطأ؛ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).
وقد جاء القرآن الكريم ليعرض «الحوار» بشكل متميز يلفت الأنظار ويعطي لنا دروساً كثيرةً ، ويشعرنا بأنّ هذا الأسلوب لم يأت به الله - عز وجل - عبثاً ؛ بل لفائدة عظيمة جليلة.
وفي كتاب الله تعالى نجد محاورات عدة منها: محاورة الله الملائكة والرسل وإبليس وبعضها كانت على ألسنة الرسل عليهم السلام مع أقوامهم، وعلى ألسنة المؤمنين مع الطواغيت وغيرها ؛ نذكر منها قول الله سبحانه وتعالى محاوراً ملائكته: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} فردوا عليه بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} ورد عليهم رب العزة بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
فإنّ الله عز وجل قد خاطب الملائكة بذلك لاستخراج ما عندهم، ولتعليم عباده المشورة في أمورهم؛ وإن كان هو سبحانه بعلمه وحكمته البالغة غنياً عنها.
ومن خصائص الحوار القرآني أنه يخاطب العقل والوجدان، ويتميز بقوة الأدلة والبراهين بحيث لا يمكن ردها إلا من مكابر جاحد للحق؛ وهو واضح بسيط يخلو من التعقيدات ؛ وقد يكون الحوار في القرآن قصيراً إلا أنه مقنع؛ ويتكرر أحياناً لفوائد عظيمة ومنها زيادة الإقناع ويعد هذا الأمر من بلاغة القرآن الكريم.
والغاية من الحوارات القرآنية هداية الناس وإرشادهم إلى ما يصلح حالهم وأحوالهم، وقد اشتمل كتاب الله تعالى على آداب «الحوار» ومن جملة هذه الآداب ما يلي:
أولاً: إخلاص المحاور النية لله تعالى : والإخلاص هو (ألا تطلب لعملك شاهداً غير الله ولا مجازياً سواه).
ثانياً: توفر العلم : فلا بد أن يكون لدى المحاور علم بموضوع المحاورة ؛ وقد نهى الله عز وجل من لا علم عنده أن يدخل في الحوار قال تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: (لا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم ).
ثالثاً: الصدق : قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}، وما أجمل بالإنسان أن يتحرى الصدق ويعتاده في حواره مع الآخرين على حد قول الشاعر:
عوّد لسانك قول الصدق تحظ به
إن اللسان لما عودت معتادُ
رابعاً: الصبر: وهو من الصفات التي اتصف بها الرسل عليهم السلام عند دعوتهم وحوارهم لأقوامهم قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} وإن للصبر عاقبة محمودة أثناء الحوار مع الآخرين:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
خامساً: الاحترام : إن الاحترام المتبادل يجعل الأطراف المتحاورة تتقبل الحق وتأخذ به؛ والأخوة تقتضي التقدير والاحترام عند المحاورة.
سادساً: التواضع : وهو حلية المتحاورين وخلق المؤمنين فما تواضع أحد لله إلا رفعه؛ وأوصى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلاً فقال: (من جاءك بالحق فأقبل منه وإن كان بعيداً بغيضاً، ومن جاءك بالباطل فاردد عليه وإن كان حبيباً قريباً).
الكبر تبغضه الكرام وكل من
يبدي تواضعه يُحَب ويحمدُ
سابعاً: العدل والإنصاف : وهما صفتان متلازمتان تجعلان المحاور يذعن للحق ويقبله وإن كان من مخالفه:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة
بين الرجال ولو كانوا ذوي رحمِ
ثامناً: حسن الاستماع : ويكون ذلك بالإنصات وعدم المقاطعة وترك الطرف الآخر يعبر عما يريد :
من لي بإنسان إذا خاصمته
وجهلت كان الحلم رد جوابه
وتراه يُصغي للحديث بسمعه
وبقلبه ولعله أدرى بـهِ
وعلى هذا فإن الحوار يشكل ركناً أساسياً من أركان الدعوة ؛ وللدين الإسلامي السبق في نشر ثقافة الحوار والدلالة عليه، كما جاء في الكتاب والسنّة من حوارات عديدة ومتنوعة كانت مرآة تعكس جمال الحضارة وعمق الثقافة الإسلامية ؛ تأخذ بأيدينا لنصل إلى الرقي في مجتمعنا وفي حياتنا اليومية مع أفراد أُسَرِنَا لكي ننشئ جيلاً نفخر ونعتز به يكون واعياً لما يدور حوله فيستطيع فهم الخلاف من خلال الحوار وحل المشكلات بطرق إبداعية متنوعة متسماً بالأخلاق الحسنة التي يتطلبها الحوار.