عمر إبراهيم الرشيد
يعرف مرض التوحد بأنه عجز معقد في مهارات التواصل والنمو الاجتماعي والتخاطب، نتيجة اضطراب عصبي يؤثر في وظيفة الدماغ الطبيعية ويصيب الأطفال قبل سن الثالثة ولدى الذكور منهم أكثر من الإناث. ويتصف المصاب بالتوحد بميله للعزلة وعدم التجاوب حتى لملاطفة ذويه وهو طفل أو التجاوب لندائهم ، وصعوبة التخاطب والنطق ، كما أنه يرفض تغيير نمط معيشته وطريقة حياته وينفر من التغيير ويقاومه.
لكن بعض الأطفال التوحديين يظهرون ذكاء ومهارة غير عادية وهم دون الثالثة في مجال القراءة وتسمى هذه الظاهرة فرط تعلُّم القراءة ، والتي يستطيع الطفل معها وهو ابن سنتين تهجئة كلمة (برتقال أو تلفزيون مثلاً) وقراءة جملة مفيدة كاملة وهو دون الثالثة من عمره. يذكرنا هذا بأنّ المعاناة أحياناً تكون مصدراً ودافعاً للتميز أو الإبداع، والطفل الألماني رفائيل موللر تجسيد لهذه الحقيقة، والتي نشرت وسائل إعلام ألمانية وعالمية قصته كطفل توحدي دخل عالم الكتابة والتأليف. رفائيل يجد صعوبة بالغة في استخدام يديه وهو على كرسي متحرك كما أنه أبكم، لكنه ظل يكافح للتواصل مع والدته ومحيطه بالكتابة على جهازه اللوحي وبصعوبة بالغة، حتى أنه يستعين أحياناً بيد أمه لتضغط على الحرف المراد في اللوح. وكانت تنتابه نوبات صرع من فترة لأخرى، كما ذكر الأطباء أنه سوف يجد صعوبة بالغة في الالتحاق بالمدرسة. لكن رفائيل كان يتعلم بصمت وبعينية وأذنيه استطاع تعلم لغته الأم كما أنه فاجأ أمه ذات يوم بكتابة اسمه على اللوح الإلكتروني وهو في السادسة، حتى تمرس واستطاع الاعتماد على نفسه في الكتابة والتواصل على جهازه اللوحي، بكتابة أجوبته على أسئلة الصحافيين الذين توافدوا لمقابلته كطفل قهر إعاقته وأبهر الجميع.
هذه المعاناة التي مر بها هذا الطفل حتى استطاع التعبير عن نفسه وما يخالجها بطريقته، فحول هذه القيود إلى وسائل وطوعها ليتحرر من أسرها، فنشر أول كتبه وهو ابن أربعة عشر عاماُ بعنوان (أطير بجناحين مكسورين)، ومن عنوان كتابه يتضح قدر معاناته مع إعاقته العصبية والجسدية ، إنما يتضح كذلك حس مرهف ومقدرة أدبية مبكرة صقلتها تلك المعاناة ، فسطر في كتابه سيرة حياته ومعاناته مع جسده والنظرة إليه على أنه معتوه. ومن أشد ما كتب تأثيراً أنه كان ينظر إلى أمه بصبر وهي تحاول الحديث معه وكأنه طفل رضيع وتحاول تعليمه القراءة بيأس وهي لا تعلم أنه يعرف القراءة!. وبالطبع فأنها الآن تفخر بابنها وقدراته الكتابية غير العادية، كما قال الخبراء وزالت صعوبات التواصل بينهما، كما أن أمه كذلك أصبحت تقرأ فكره وشخصيته عن طريق كتبه، فهو يكتب قصائد قصيرة وقصصاً، إضافة إلى سيرته الذاتية في كتابه الأول. ورفائيل يصدر الجزء الثالث من قصته (آزا وجازا) خلال هذا الشهر، إضافة إلى العمل على إصدار الجزء الرابع، كما أن جامعة ميونخ وافقت على حضوره كمستمع في محاضرات الأدب، إضافة إلى سرعة تدرجه إلى الصف الثاني عشر المتوسط. دخلت كتاباته ضمن أفضل النصوص الأدبية في ولاية بافاريا في فئته السنية، كما أنه تعلم الإنجليزية والإيطالية في المدرسة واستطاع التحدث مع زملائه الأتراك بلغتهم عن طريق لوحه الإلكتروني، وهو بانتظار تحديد موعد لزيارة رئيس الجمهورية الألماني يواخيم غاوك!.
إذاً فقصة هذا الفتى من أفضل الأمثلة التي تجسّد كيف أن المعاناة تدفع أحياناً كثيرة إلى النجاح والتميز والإبداع. هيئة رفائيل وهو على كرسي متحرك مع جسد غير طبيعي الحركة، مستجلباً نظرات الشفقة على أنه فتى معاق أو معتوه، بينما يحوي هذا الجسد عقلاً نيراً وحاسة أدبية راقية، حولت هذا العجز الظاهري إلى تألق. كأن هذه القصة تذكرنا بعدم الانخداع بالمظهر والحكم على الناس بمظهرهم أو هيئاتهم أو أجسامهم، وكما قال كثير عزة:
ترى الرجل النحيل فتزدريه
وفي أثوابه أسد هصور
كما أنها قصة ملهمة مليئة بالعبر لنا ولمن امتحن الله إيمانه بإصابة أحد أبنائه أو أقاربه بالتوحد ، بأنّ مع العسر يسراً بإذن الله وأن الصبر جزاءه معية الرحمن {إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، ذلك لمن يؤمن بقضاء الله ويصبر على ابتلائه ويأخذ بأسباب العلاج قدر المستطاع، ويستفيد من قصة إنسانية كهذه ، والله يرعاكم بعنايته.