د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
لا تزال اقتصادات العالم تواجه أزمة البطالة، ورغم تحسن مستويات البطالة في العديد من بلدان العالم، إلا أن هذا التحسن لم يصل إلى مرحلة الاستدامة أو ما يُسمى بالطمأنينة الاقتصادية بسبب حدوث مستجدات ومتغيرات تحدث في الاقتصادات الكبرى المختلفة وحتى في الاقتصادات الصاعدة والناشئة، وبشكل خاص عند ازدياد عدد العاطلين من الفئة العمرية 20-25 سنة التي تصل إلى ثلاثة أضعاف نظيرتها بين الفئات العمرية الأكبر سناً وفق المنظمات الدولية المعتمد، بل اللافت في بعض تلك البلدان ارتفاع بطالة الرجال عن النساء على عكس ما يحدث في المملكة العربية السعودية التي ترتفع نسبة البطالة عند النساء إلى نحو 32.8 في المائة منتصف النصف الثاني من عام 2014 حسب الإحصاءات الرسمية بل قد تكون أكبر بكثير، بينما تنخفض في الذكور إلى 5.9 في المائة لنفس الفترة وبمعدل بطالة 11.7 في المائة بنهاية خطة التنمية التاسعة رغم استهدافها 5.5 في المائة.
الدول المتقدمة لديها منظومة اجتماعية واقتصادية وقانونية وقضائية كاملة، رغم ذلك فإنها تواجه مشكلات عديدة مثل نقل المصانع وحركة رأس المال باتجاه شرق آسيا، لكنها لا تواجه أزمة في توطين الوظائف مثلما نحن نعاني، مثل المساواة بين العمال سواء الوافد أو السعودي ومن ذلك المساواة في الأجر والمساواة في ساعات العمل وتفريغ نظام الكفيل المثير للجدل، التي تُعد من إصلاحات واسعة لقانون العمل تمكن العامل الوافد من إنهاء وظيفته والحصول على أخرى.
رغم ذلك تعاني أمريكا من انخفاض الطبقة الوسطى من 61 في المائة عام 1971 إلى 50 في المائة عام 2015 بسبب تهاوي المداخيل، والاتجار بالبشر تجارة رائجة في بريطانيا ووفقاً لتقديرات وزارة الداخلية البريطانية هناك نحو عشرة آلاف إلى 13 ألف شخص مستعبدون في بريطانيا الحديثة، عدد الأشخاص المصنفين ضحايا محتملين للاتجار بالبشر ارتفع بمقدار الثلث عام 2014 ليصبح 2340 شخصاً، والأطفال الفيتناميون محبوسون في شقق في مانشستر لزراعة القنب والنساء الألبانيات محاصرات في أوكار الدعارة.
لا توجد حلول معجزة لمشكلات الفقر والتخلف الاقتصادي وعوض محاولة البحث عن تحقيق معجزات لا يتوجب على صناع القرار إلا احترام حقوق الأفراد، فيجب إعادة التوازن بين القطاع الخاص الطفيلي، الممول في كثير من الأحيان أكثر من اللازم، والقطاع العام الخائف والعديم الخيال.
نحن نعاني من التستر والسعودة الوهمية، والتستر يعني قيام غير السعودي بممارسة النشاط التجاري لحسابه الخاص بتمكين من مواطن سعودي أو مستثمر أجنبي سواء كان ذلك عن طريق استخدام اسمه أو ترخيصه أو سجله التجاري أو بأي طريقة أخرى، ما جعل الوافدين يستحوذون على 54 في المائة من الوظائف التي يوفرها القطاع الخاص، بل إن 74 في المائة من المنشآت الصغيرة البالغة 1.32 مليون منشاة لا يعمل فيها أي مواطن، وتقدر القوة العاملة الأجنبية بـ56 في المائة من العاملين البالغ عددهم 6.3 مليون عامل، رغم ذلك هناك 35.5 ألف أجنبي عاطل عن العمل في السعودية يشكّلون 5.2 في المائة من العاطلين، بينما بلغت قوة العمل السعودية بمنتصف عام 2014 بـ5.58 مليون عامل منهم 1.2 مليون عاملة سعودية يُشكّلن نسبة 21.5 في المائة من قوة العمل السعودية.
وأصدرت وزارة العمل عام 2014 نحو 1.8 مليون تأشيرة عمل منها 48 في المائة للمشاريع الحكومية، وتدعي وزارة العمل أنها تصدر 10 آلاف ملف تجاري جديد شهرياً بحاجة إلى استقدام 800 ألف عامل سنوياً، في المقابل حررت وزارة العمل 73 ألف مخالفة لمنشآت القطاع الخاص خلال عام 2015، ونحو 531 ألف وافد تغيبوا عن العمل في القطاع الخاص خلال 2015 هناك 57 منهم خرجوا بلا عودة ونحو 87 ألف عمالة منزلية متغيبة 60 في المائة منهم إناث.
وتحاول وزارة العمل إطلاق التقييم الذاتي ونطاقات موزون للتصدي للتوطين الوهمي، والتطبيق الإلزامي لبرنامج حماية الأجور في مرحلته العاشرة التي تشمل فئة المنشآت التي يبلغ عدد العاملين لديها 80 عاملاً فأكثر، وقدرت الوزارة عدد المنشآت المشمولة في هذه المرحلة بـ 4087 منشأة بعدد تبلغ نحو 362949 عاملاً.
صندوق تنمية الموارد البشرية (هدف) استطاع أن يولد وظائف بنحو 762 ألف سعودي وسعودية منذ عام 2011 وحتى 2015، وظّف فقط في عام 2015 نحو 251 ألف باحث وباحثة عن وظيفة، استطاعت كذلك قنوات طاقات أن تضخ 47 ألف شاب وشابة سعودية إلى سوق العمل في عام 2015، حتى أصبح هناك 1.2 مليون منشأة سعودية في النطاق الأخضر بنهاية عام 2014 تشكّل نسبة 66 في المائة من إجمالي المنشآت البالغة 1.8 مليون منشأة، وهيئة توليد الوظائف تبدأ التنسيق مع الجهات الحكومية لتطوير قاعدة بيانات لسوق العمل.
استخدام العمالة الوافدة غير الماهرة تسبب في ضغط على أجور المواطنين بسبب تدني أجورهم وزاد من رقعة الفقراء وأصبحوا يتسولون في الشوارع، بل ساهم في رفع نسبة الجرائم خصوصاً في جرائم غسل الأموال لمن لم يتسول في البحث عن أموال تعويضاً عن الرواتب المتدنية التي يحصلون عليها التي لا تتناسب مع تكاليف المعيشة المحلية، خصوصاً أنهم أتوا من أجل الادخار لتأمين حياتهم المعيشية في بلدانهم الأصلية، بل إن هذه العمالة أوقفت استخدام الشركات المشغلة لهم التقنية العالية، فمثلاً بدلاً من أن تشغل آلافاً من عمال نظافة الشوارع، يمكن استخدام آليات تنظيف تستعيض عن استخدام أعداد كبيرة من هذه العمالة.
لكن يجب أن ندرك ضخامة الجهود التي تبذلها وزارة العمل من أجل إقناع صاحب العمل بضم أكبر عدد ممكن من الأيدي الوطنية، لكن غياب القوانين وعقاب المخالفين التي من المفروض تحكم العلاقة بين المواطن وصاحب العمل، كما هو الحال في بقية البلدان، لأن ضغوط وزارة العمل ووزارة الداخلية على السوق لم تفلح في تصحيح سوق العمل بل ارتفعت تكاليف العمل على المواطنين فقط، وكان العمال غير النظاميين يحصلون على عوائد كبيرة جداً التي يدفعها المواطنون.
العقد الاجتماعي السائد في السعودية عبئاً أكثر منها ميزة، ما أدى إلى إيجاد هيكل اقتصادي يفضل الصناعات الرأسمالية على الصناعات كثيفة الاستخدام للعمالة، ووفقاً لدراسة ناقشتها التجارة العالمية تحلل سبل تنمية اقتصادات الدول، والتي وجدت أن استثمار دولار واحد يعزز الناتج المحلي بـ 384 دولاراً و87 للصادرات، وأن الشركات الكبيرة تولد عوائد في التصدير أسرع وأكبر، لكن الصغيرة تولد نمواً أعلى في نصيب الفرد.
المنشآت الصغيرة والمتوسطة تُعتبر أحد أهم روافد اقتصاد الدول الصناعية الكبرى كونها قاعدة الصناعات العملاقة، والمخاطرة العالية في فترات قصيرة نسبياً تتسبب بعدم استمرار نسبة كبيرة في المنشآت الصغيرة والمتوسطة، و267 ألف منشأة صغيرة ومتوسطة في السعودية التي تمثل 68 في المائة مدارة من الوافدين، ما يجعل المنافسة غير العادلة، واختلال قنوات الاستثمار تفشلان المنشآت الصغيرة والمتوسطة، ما يجعلها تمثل نسبة ضئيلة في الناتج المحلي الإجمالي بسبب عدم فعاليتها في الاقتصاد المحلي، وعدم قدرتها على أداء دورها الحقيقي الذي يساهم في رفع معدل تنويع القاعدة الإنتاجية، وهي بحاجة إلى تكتلات صناعية وتجارية، وهناك شراكات سعودية أمريكية مرتقبة بين المنشآت الصغيرة والمتوسطة، خصوصاً في القطاعات النفطية والغذائية والدوائية لرفع الاستثمارات الأمريكية في السوق السعودي البالغة 44 مليار دولار.
هدف إنشاء هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة بمبادرة من مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية من أجل أن تدعم إنشاء شركات تمويل متخصصة، لأن خلال 8 سنوات لم تتمكن الدولة من تقديم الدعم المطلوب لتلك المنشآت الصغيرة والمتوسطة سوى تقديم 10.7 مليار ريال، استحوذ قطاع المقاولات على 60 في المائة من عدد كفالات برنامج كفالة حتى عام 2014، وإعداد برامج ومشاريع لنشر ثقافة العمل الحر وبث روح ريادة الأعمال والمبادرة والابتكار، والاطلاع على التجارب العالمية أهمها دول جنوب شرقي آسيا والاتحاد الأوروبي.
العمل والتجارة تخططان لحماية المستثمرين من قرصنة العمالة الوافدة، وتأكيداتهما على توطين محلات المستلزمات النسائية، وحمايتهم من المنافسة الشرسة التي تخلقها سيطرة العمالة الوافدة على سوق العمل في عدد من الأنشطة، وتعمل في ظل التستر التجاري، خصوصاً أن قطاع التجزئة يدخل مرحلة جديدة من النمو وتوقعات بوصول حجمه إلى 70 مليار دولار خلال 5 سنوات قادمة لرفع الناتج المحلي لمواجهة المتغيرات الاقتصادية وتذبذب أسعار النفط في الأسواق العالمية.
وهناك تحركات لدراسة وضع قطاع التجزئة في السوق متوافقاً مع حجم الاستثمارات، وتحديداً في الأطعمة والمشروبات، والترفيه المغلق الذي بدأ ظاهرة تجارية جديدة تتوافق مع طبيعة الأجواء في البلاد، الذي أصبح وجهة ترفيهية رئيسية للعائلة السعودية والمقيمين، ما يجعل هذه القطاعات المختلفة تشكل حاضنة رئيسة لتنويع الوظائف والاختصاصات في البيع والصيانة وصناعة الطعام الذي يشكّل بمفرده 44 في المائة من إجمالي قطاع التجزئة.
إذ يستقطب قطاع التجزئة وفقاً لإحصاءات غير رسمية 45 في المائة من إجمالي الوظائف المتاحة في القطاع الخاص، خصوصاً أن التكوين السكاني في السعودية يغلب عليه الشباب بنسبة 66 في المائة من إجمالي السكان البالغ عددهم 31 مليون نسمة يشكّل السعوديون ما نسبته 85 في المائة الذي ينعكس على تنامي معدلات الاستهلاك، ويدفع إلى التوسع في إنشاء مراكز التسوق التي تحتضن منافذ بيع التجزئة الذي يبلغ حجمه في الوقت الحاضر 170 مليار ريال (45 مليار دولار) بحسب الدراسات الحديثة من إجمالي تجارة التجزئة على مستوى دول الخليج البالغة 270 مليار ريال.
هناك قطاعات لم توظف وطنيين مثل قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات سوى 1 في المائة من مجمل العاملين في السعودية، كما أن التجارة الإلكترونية في السعودية لا يتجاوز حجمها سوى 2 في المائة من الناتج المحلي، بينما في الولايات المتحدة يبلغ 6 في المائة، فيما يبلغ الاقتصاد الخفي في السعودية نحو 4 في المائة من الناتج المحلي.
وتنخفض الصادرات السلعية لتقنية المعلومات لجملة الصادرات السلعية التي لا تتجاوز سوى 0.2 في المائة، بينما الصادرات الخدمية للقطاع لا تتجاوز 3.3 في المائة، وهي نسبة ضئيلة جداً إذا ما قورنت بصادرات سنغافورة التي تصل إلى 25 في المائة، وفي ماليزيا نحو 29 في المائة، وللهند 66.7 في المائة، وهو ما يعني أن السعودية مستهلكة وليست منتجة للتقنية، الأمر الذي يستلزم البدء بتنفيذ المبادرات التي تحول المجتمع السعودي إلى منتج للتقنية لا مستهلك فقط، خصوصاً وأن عدد الوظائف تضاعفت في هذا القطاع في الولايات المتحدة منذ عام 2007 ورواتب الموظفين فيه تتجاوز بأشواط معدل الرواتب الأخرى، والاستثمارات فيه تبلغ 996 مليار دولار.
لذلك هناك مراهنة على تحول المؤسسات الفردية إلى شركات وزيادة المساهمة، والشركات العائلية تعطي دروساً في ريادة الأعمال، بل يعود الفضل في تأسيس عديد من الصناعات إلى الشركات العائلية، ابتداء من آخر صيحات الموضة على صناعة السيارات على مستوى العالم، أسهمت قدرتهم على الاستمرارية في بناء أسماء جديرة بالثقة ليصبحوا في نهاية المطاف معروفين على صعيد الأعمال.
ونحو 75 في المائة من القطاع الخاص السعودي يسيطر عليه نحو خمسة آلاف شركة عائلية، وتتحكم في 90 في المائة من النشاط التجاري في منطقة الخليج، وتقدر ثروات الشركات العائلية في منطقة الخليج نحو 7.2 تريليون دولار تمثل 3.6 في المائة من الثروات الخاصة عالمياً (جريدة الشرق الأوسط 29/10/2015)، مما يدعو لإيجاد محافظ استثمارية خاصة، فيما تبلغ قيمة الشركات المساهمة نحو 1323 مليار ريال خلال عام 2014 توزعت على 24 نوعاً من أنواع الشركات المختلفة وطبيعتها القانونية التي لا تزال متواضعة ويمكن جذب الشركات العائلية لتتحول إلى شركات مساهمة لدعم الاقتصاد المحلي وسوق المال.
هناك فجوة كبيرة بين إجمالي الأجور بين القطاع العام والخاص، ففي عام 2014 تبلغ قيمة الأجور في القطاع العام نحو 314 مليار ريال بنسبة 37 في المائة من الميزانية لإجمالي عدد 1.26 مليون موظف 60 في المائة منهم ذكور و40 في المائة إناث و 5.7 في المائة غير سعوديين، فيما تبلغ إجمالي قيمة الأجور في القطاع الخاص نحو 23.2 مليار ريال لأكثر من 10.02 مليون مشتغل مقارنة بـ5.4 مليون مشتغل بنهاية عام 2005.
في الولايات المتحدة التي تهتم بخلق الوظائف بوتيرة عالية، والتي لها تأثير على أسعار ساعات العمل، وعندما تجد أن معدل الزيادة وصل نحو 0.5 في المائة تعتبره مشجعاً، وأنه مؤشر على نجاح الجهود التي تبذلها الدولة في خلق الوظائف، لما لها من تأثير الأجور المرتفعة على الدخل الصافي، ليس فقط في تراجع نسب البطالة، بل لأن ارتفاع الأجور تشير إلى أن أوضاع السوق أصبحت أكثر إحكاماً، وتعطي مؤشراً إيجابياً بشأن توقعات الاستهلاك، وهي أكبر مكونات الناتج المحلي الإجمالي والمحفز الأكبر للاقتصاد.