د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
عانى الاقتصاد العالمي آثار الأزمة المالية عام 2008، وبعد الإدمان على تكديس الأموال الرخيصة، بدأت الدول تتجه نحو الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي لزيادة النشاط الاقتصادي والتوظيف وتشجيع المستثمرين على أخذ المزيد من المخاطرة، وبعد أن اتجهت رؤوس الأموال للاستثمار في ديون الدول ذات الاقتصادات الصاعدة، وفي ديون الشركات والسلع، التي تُسمى المبتكرات والمشتقات المالية التي شكّلت نواة أزمة القروض العالمية الأساسية للأزمة المالية التي حدثت في عام 2008.
اتجهت الولايات المتحدة نحو رفع الفائدة الأمريكية حتى تعود رؤوس الأموال إلى داخل الولايات المتحدة لاستثمارها في الاقتصاد الحقيقي، وهي التي أثّرت على أسعار الأصول، وخصوصاً أسعار السلع الأساسية ومنها أسعار البترول.
هدفت الولايات المتحدة من رفع الفائدة لرفع مستوى النشاط الاقتصادي الذي يخفض من مستوى البطالة حتى يتوافق مع منحنى فيليبس الذي يبين العلاقة بين التضخم والبطالة، حيث إن العلاقة بينهما عكسية، أي أن زيادة التضخم تُعبّر عن زيادة النشاط الاقتصادي الذي يساهم بدوره في انخفاض البطالة، والعكس صحيح، رغم أن بعض الاقتصاديين يشكون في مصداقية منحنى فليبس في ظل حدوث ما يُسمى بالركود التضخمي الذي حدث في فترات عديدة، خصوصاً في فترة السبعينيات من القرن المنصرم، الذي أدى إلى ارتفاع في التضخم والبطالة معاً.
مثل هؤلاء ينظرون إلى مؤشر الأسعار وتأثيره على التضخم في المستقبل، وعندما يكون مؤشر الأسعار يتجه نحو الانخفاض، فإنه سيؤدي إلى انخفاض في الطلب، مما ينعكس على تراجع النشاط الاقتصادي، لذلك فهم يرون أن مؤشر رفع الفائدة الأمريكية لن يؤدي إلى كبح جماح التعافي الاقتصادي الذي لا يزال الاقتصاد الأمريكي والعالمي في دائرته ولم يخرج حتى الآن من أزمته التي بدأت في عام 2008.
النفط هو أحد أهم السلع العالمية التي تعتمد عليه مداخيل الموازنات في دول الخليج، وخصوصاً السعودية، وانخفاض أسعاره سيؤثر على تلك المداخيل، مما يجبر تلك الدول على التحرر من تبعية تلك المداخيل، ليس فقط التحرر من تبعية مداخيل النفط، بل أيضاً التحرر من اقتصار استثمار عوائد النفط في سوقين أساسيين هما المضاربة في سوقي الأسهم وسوق الأراضي، وليس سوق العقار الذي يوفر المساكن، وهو سوق متكامل يرتبط بأسواق أخرى ضمن النشاط الاقتصادي الكلي للدولة.
وكما أن الصين تتجه نحو التحول إلى نمط جديد من النمو، وهو ليس تباطؤاً كما يحلو للبعض تسميته بل هو تحول، فكذلك تعيش السعودية بداية التحول الاقتصادي الكبير، وهي تتطلع لوضع برنامج وطني شامل لاقتصاد ما بعد النفط، من أجل تحقيق معادلة جديدة لاقتصاد السعودية، بدلاً من أن تستمر ضحية تذبذب أسعار النفط، بل هي تريد أن تستثمر الأزمة، وإثباتها في كيفية إدارة تلك الأزمة بكل اقتدار، وقد حان قطف ثمار ما زرعته عبر عقود استعداداً لمرحلة ما بعد النفط، بإضافة قطاعات جديدة تدعم الاقتصاد وصولاً لاقتصاد مستدام ومتوازن للأجيال القادمة، حتى لا يكون السوق السعودي مرتهناً لتقلبات الأسواق العالمية.
التحول الاقتصادي في السعودية يتم عبر مجلس متخصص وإصلاح لا يهدأ، الذي رسم الكثير من ملامح الاقتصاد السعودي في الحاضر والمستقبل، وهي خطوات تأتي متزامنة مع حراك اقتصادي كبير تشهده السعودية، مستندة إلى احتياطي تجاوز 654 مليار دولار بنهاية الربع الثالث من عام 2015 وهو الثالث عالمياً.
يدرك المجلس أنه أمام مرحلة تاريخية جديدة، ووضعَ هدفاً محدداً وواضحاً في تقليل اعتماد الدولة على النفط إلى ما دون الـ 70 في المائة خلال السنوات الخمس القادمة، التي شكّلت الإيرادات النفطية ما نسبته 73 في عام 2015، مما يدل على تحسن كبير في الإيرادات غير النفطية، ومن المتوقع أن تصل الإيرادات غير النفطية إلى 100 مليار دولار مرتفعة من 43.6 مليار دولار عام 2015 التي ارتفعت بدورها من 33.8 مليار دولار في عام 2014 بنسبة نمو 29 في المائة.
وتنوي زيادة مساهمة القطاعات غير النفطية من الإيرادات الحكومية من 10 في المائة حالياً إلى نحو 70 في المائة بحلول عام 2030، بل إن التحركات الاقتصادية السريعة تُنبئ بتحقيق تلك النسبة قبل عقد من الزمن من العام المذكور، وهي لم تتحقق عبر أربعة عقود من الزمن، لكن الاقتصاد السعودي بدأ يلمس هذا التنوع بعد اتخاذ سلسلة من التطورات الاقتصادية.
لم تتوقف رؤية السعودية على الإصلاح الاقتصادي عند الإيرادات غير النفطية، بل لديها رؤية اقتصادية من شأنها تعميق مساهمة دور القطاع الخاص وتفعيله وتحفيزه للمشاركة في التنمية الاقتصادية، خصوصاً أن السعودية ترتكز على بنية تحتية أكثر متانة وأكثر قوة.
اتخذت السعودية عدداً من القرارات لتفعيل التنمية السريعة، بدأت بفتح السوق السعودي أمام الشركات العالمية للاستثمار المباشر، وفرض رسوم على الأراضي البيضاء لفك احتكارها التي أعاقت تنمية القطاع السكني والعقاري لوقف استمرار القطاع العقاري في الاعتماد على المضاربة في سوق مغلقة تكتفي برفع الأسعار عبر المضاربة بعيداً عن المبررات الاقتصادية من أجل أن جعل تلك الأراضي مستودعاً حفظ القيمة بدلاً من المخاطرة في استثمارها وإيداعها في البنوك، لكن فرض الرسوم رفع تكلفة حجز تلك الأموال في تلك الأراضي، خصوصاً أنها تتجه نحو الانخفاض بجانب تكلفة الرسوم التي فرضت عليها بنسبة 2.5 في المائة، مما يفرض على تلك الأموال البحث عن فرص استثمارية أخرى، وهي متاحة في ظل الإصلاحات الاقتصادية التي تقودها الدولة.
بدء تفعيل برنامج الخصخصة لبعض القطاعات الحكومية، وهو برنامج إستراتيجي حكومي، لكن الدولة أجّلته، أو كان هناك بطء في التوجه نتيجة ارتفاع أسعار البترول، بينما الآن تتجه السعودية نحو تخصيص مطار الملك خالد الدولي في الرياض، فيما سيكتمل هذا الملف في عام 2020، في تحول نوعي على صعيد قطاع الطيران في السعودية.
ولن تكون مطارات السعودية مستقبلاً عبئاً على ميزانية السعودية، بل على العكس ستتحول إلى بيئة استثمارية جاذبة، وستكون قيمة إضافية جديدة، تخضع لأعلى مستويات المنافسة العادلة، وهي المنافسة التي ستقود إلى تحسين جودة الخدمة وتقليل الأسعار على المسافرين، مع تعديل نظام الشركات، وإنشاء هيئة لتوليد الوظائف، وأخرى للمقاولين، وثالثة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، وهيئة عامة للإحصاء.
السعودية لديها قوة اقتصادية هائلة لم يتم تفعيلها في الفترة الماضية بسبب ارتفاع أسعار النفط، وهي طموحات بدأت تتحقق على أرض الواقع بعد انخفاض أسعار النفط، بسبب أن مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية يتبنى دوراً استباقياً من شأنه إحداث نقلة نوعية على صعيد السياسة المالية والاقتصادية للبلاد.
برنامج التحول الوطني الاقتصادي بدأت تظهر ثماره على الرغم من حداثة عمره، لكن هناك نقلة اقتصادية نوعية تميزت بسرعة اتخاذ القرارات، وتأكيد تطبيقها التي أوجدت تحولات ديناميكية العمل الاقتصادي، وهي تعد لمرحلة جديدة للاقتصاد السعودي في جميع الجوانب الاقتصادية بتعدد مصادر الدخل غير المصادر النفطية، خصوصاً أن التعليم والصحة والصناعات التحويلية وصناعة الخدمات بشكل خاص تمثّل فرصاً استثمارية واعدة ورديفة للنفط.
إذ تدرس الدولة فصل المستشفيات عن وزارة الصحة، وتحويلها إلى شركات حكومية، على أن يكون دور الوزارة إشرافياً ورقابياً وراسماً للسياسات العامة، إذ يبلغ عدد مستشفيات وزارة الصحة 270 مستشفى بعدد 40 ألفاً و300 سرير، وفي اعتقادي أن وزارة التعليم يجب أن تبحث عن خطط مشابهة لخلق التنافسية بين إدارات التعليم، وخلق تنوع بدلاً من المركزية التي تعيق تطوير التعليم، وتبقى الوزارة راسمة فقط للسياسات.
وهو هدف من أجل أن تستقطب السعودية استثمارات مضاعفة التدفقات السنوية للاستثمار الأجنبي المباشر خلال العشر سنوات المقبلة، وذلك عبر التركيز على جذب الاستثمارات إلى قطاعات جديدة كالتعدين والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات، وهي سياسة تتكيّف مع عصر النفط الرخيص عبر تنويع اقتصاد أكبر مصدر للخام في العالم بعيداً عن النفط والغاز والبتروكيماويات في ظل أكبر تغيير للسياسة الاقتصادية للسعودية منذ آخر مرة تضرر فيها اقتصاد السعودية جراء هبوط أسعار النفط قبل نحو عشر سنوات تشمل إصلاحات تتعلق بالإنفاق الحكومي وخصخصة جهات حكومية.
وبالنظر إلى الاقتصاد السعودي الذي تمكن من جذب استثمارات بنحو عشرة مليارات دولار سنوياً في القطاعات التقليدية، وبلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة أعلى مستوياتها عند 40 مليار دولار في 2009، لكنها تراجعت منذ ذلك الحين وبلغت في مجملها نحو ثمانية مليارات دولار في عام 2014 حسب الأرقام الصادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية.
لكن بعد الإقدام على تغيير السياسة الاقتصادية ستتجه السعودية نحو جذب استثمارات لعدد من القطاعات التي لا ترتبط بالنفط بصورة مباشرة، خصوصاً في قطاع التعدين الذي يُعتبر أحد أهم القطاعات الجاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة في ظل ما تتمتع به السعودية من ثروات معدنية لم يجر اكتشافها بصورة كلية بعد بما في ذلك الفوسفات والبوكسايت والمعادن الثقيلة والذهب، وتتوقع أن ترتفع خلال السنوات العشر المقبلة إلى مثلي أو ثلاثة أمثال مستواه على أساس المتوسط المتحرك.
من جهة أخرى اتجهت السعودية نحو تعزيز شراكاتها الإستراتيجية مع عدد من دول العالم لقيادة التحول الاقتصادي، بدأته مع الصين بتوقيع خمس اتفاقيات جديدة في المجالات الاستثمارية والتجارية والعلمية التي تصب في صالح ثلاثة محاور إستراتيجية للشراكة السعودية الصينية في تطوير استثمارات مستدامة ومجدية اقتصادية في قطاع التكرير والتسويق الصيني، والمحور الثاني يتعلق ببناء الشراكات بين البلدين في إطار الحزام الاقتصادي لطريق الحرير، والمحور الثالث يتعلق بدعم التعاون المشترك في مجالات البحوث والتعليم وتقنية المعرفة.
وافتتح الملك سلمان وضيفه الرئيس الصيني مشروع ياسرف تحت شعار شراكة اليوم طاقة للغد، وهو مشروع خطوة إستراتيجية في مجال تكامل الطاقة والكيميائيات، وهو ثاني مشروع مشترك بين أرامكو السعودية وشركة ساينوبك بعد مصفاة فوجيان جنوب شرقي الصين، التي تُعد أكبر شركة في آسيا في مجال التكرير والبتروكيماويات، ينتج 400 ألف برميل، ويحول النفط بالكامل إلى منتجات نظيفة بيضاء لا زيت وقود ثقيل فيها، والمنتجات ستكون عالية مما يعزز من الربحية، والمشروع نواة لمشاريع أخرى.
فيما تركز سابك على رفع كفاءة التشغيل، وتعزيز وجودها في أفريقيا خصوصاً بعدما انخفضت أرباحها إلى 19.5 في المائة في عام 2015 عن عام 2014 حيث وصلت إلى 18.7 مليار ريال (4.9 مليار دولار)، وهي تتجه إلى تصنيع منتجاتها في الأسواق الأفريقية، وتتحول من بائع إلى مصنّع ومنتج دون الدخول في صناعات منافسة للمنتجات المحلية لزبائنها وعملائها وهو جزء من دعم الشركة للاقتصادات المحلية، بينما الشركة تسعى لتطوير منتجاتها وتخفيض التكاليف وزيادة الإنتاج.
كما وقّعت السعودية تسع اتفاقيات مع دولة المكسيك، خصوصاً بمجال البترول والغاز، حيث يتجه البلدان نحو التعاون الإستراتيجي، إذ إن المكسيك دولة من الدول الصاعدة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية خصوصاً أن البلدين يمتلكان ثروات كبيرة ومشاريع مستقبلية طموحة وتعاوناً ثنائياً ودولياً كبيراً فاعلاً.
ويتركز التعاون مع المكسيك باعتبار الدولتين تمتلكان موارد بترولية مكتشفة وغير مكتشفة، وتمتلكان شركات عملاقة هما أرامكو وبيماكس، يمكن التنسيق فيما بينهما على غرار التنسيق الذي تم بين البلدين بالإضافة إلى فنزويلا في الرياض عام 1998، استمر التنسيق وحل المشاكل العالقة آنذاك حتى منتصف عام 1999، والتخلص من فائض العرض والمخزون، وإعادة التوازن للسوق، وتحسن الأسعار لصالح المستهلكين والمنتجين، مما انعكس على الصناعة البترولية، وعلى صناعة الطاقة، وهناك مجالات أخرى للتعاون بين البلدين في مجال البترول والصناعات اللاحقة مما يفتح المجال أمام مجالات البترول والصناعات المرتبطة به.
كما وتعتزم السعودية إنتاج 600 ألف طن من الأحياء المائية خلال 15 عاماً في ظل توجه لنقل التقنيات العالمية في تأمين الغذاء من الأحياء البحرية في ظل توفر 170 ألف كيلو متر على سواحل البحر الأحمر، وإجمالي سواحل السعودية على البحر الأحمر والخليج العربي بنحو 2600 كيلو متر تمتلكها السعودية من السواحل البحرية، كمقوم أساس لمثل هذا النوع من الاستثمار من استزراع الأسماك وبقية أنواع الثروة من الأحياء المائية لتعظيم سياسة الصادر السعودي والتنويع الاقتصادي، حيث تتبلور هذه الرؤية إلى زيادة نصيب الفرد السعودي من 12 كيلو غراماً للفرد حالياً في السنة، بينما المعدل العالمي 19 كيلو غراماً للفرد في السنة تقريباً، فبنما يصل معدل متوسط الفرد في الدول المتقدمة إلى 62 كيلو غراماً للفرد مثل اليابان.
السعودية تشبه الصين عام 1978 عندما أعلنت الصين فتح الباب أمام التجارة العالمية والاستفادة من مواردها البشرية الضخمة، صنعت الصين حينها أربع مناطق اقتصادية لتشجيع الاستثمار الأجنبي، وفي العام 1982 وضعت خطة لست سنوات تهدف لتحقيق النمو في اقتصاد السوق، وعملت على تقوية العلاقة الاقتصادية المباشرة مع أمريكا لمواجهة التحديات بعيدة المدى، استثمرت الصين فقط في عام 2008 نحو 586 مليار دولار في مشروع لدعم البنى التحتية وفي مجالات عدة مختلفة.
الصين كانت ناجحة لأنها كانت تركز على الانتقال البطيء لكن المطرد نحو أسواق أكثر تحرراً، وقد شبه دينج هذه العملية باجتياز نهر من خلال تحسس الحجارة تحت القدمين، ولكن لا يزال هناك نفوذ للدولة قوي يرسي الاستقرار، لأنها اعتمدت اقتصاداً رأسمالياً موجهاً ما جعلها تحد من الاستثمارات الأجنبية في القطاع المصرفي، وأطلقت جهوداً إنقاذية شبيهة بتلك التي اعتمدها الغرب، بما فيها خطة ضخمة بقيمة 600 مليار دولار لتحفيز الإنفاق الحكومي، وتخفيض معدلات الفائدة إلى حد كبير.. كما أطلقت الصين العنان للقطاع الخاص، الذي أصبح يسيطر على نصف الاقتصاد الصيني على الأقل، أو ما يقارب 70 في المائة إذا ما احتسبنا الشركات التي تملكها الدولة التي يسمح لها بالعمل كمؤسسات خاصة.