استراحة قرآنية ">
إن المتتبع للسياق في سورة البقرة حين تكلم القرآن عن أمور النكاح والطلاق بتفاصيلها يجد أن السياق قد تغير في موضعين اثنين، الموضع الأول حين قال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} يجب أن يعلم القارئ أولاً أن التعايش في المجتمع ومع الناس لا يكون سهلا ولا يسيرا وذلك لاختلاف البشر في طباعهم وأفكارهم وأهوائهم فالأصل فيهم التباين والاختلاف. فاللين والحوار والحكمة هي الأسس التي يقوم عليها صلاح المجتمع.
ولكي تتضح الصورة في كيفية تعايش هذا المجتمع وطبيعته، فإننا إذا نظرنا إلى الرجل والمرأة إذا أقبلا على الزواج فإن كل منهما يظن أنه سيقدم إلى الزواج بشخص يحمل درجات الكمال، لكنه سرعان ما يتفاجأ بأن صاحبه يحمل من الكمال ما نسبته ثلاثين بالمائة تقل أو تزيد وهذه طبيعة البشر فهم إلى النقص يميلون، فإذا انصدم بهذه النسبة فإنه أمام طريقين لا ثالث لهما.
الأول هو أن ينهي هذا الزواج بالطلاق وهذا خراب للفرد والمجتمع، والثاني هو الاستمرار في هذا الزواج الذي إنما يبنى على المودة والرحمة التي بها ترتفع نسبة التفاهم بينهما إلى أعلى درجات الكمال، ومع الوقت تزيد المحبة بينهما ويزيد الإعجاب، فيجتمع نسبة الكمال التي توقعتها الزوجة عن الرجل مع نسبة ما توقعه الرجل من زوجته فترتفع النسبة، وهذه الزيادة إنما هي في الوهم لا في الحقيقة!
كيف يكون ذلك؟ ألا ترى أن الولد ينظر إلى والده على أنه من حاز أعلى درجات الكمال، والحقيقة أن الكمال إنما هو للأنبياء فقط. لكن ما دعا هذا الولد إلى أن ينظر إلى والده بهذا الكمال هو ذلك الهيكل الذي بناه في مخيلته وجعل والده متربعا في أعلاه وألبسه تاج الكمال وهذا كله غير موجود في الحقيقة، ولذلك حينما يرى الآخرون هذا الوالد لا ينظرون إليه بنفس نظرة ولده، بل وحتى إن كلمة صباح الخير من الأب لابنه لها طعم خاص، وهي نفسها ليس لها ذاك التأثير إذا سمعها من أي شخص آخر. وهذا كله ما كان ليكون لولا وجود هذا الوهم الذي هو موجود في مخيلة الابن فقط.
وهذه الصور التي عرضناها للزوج مع زوجته وللابن مع أبيه تبين مدى أهمية هذا المجتمع وأن الصورة المرئية له هي بخلاف التعقيد الحقيقي. فإذا جاء الذي يحتمي عن فعل الخير بالإيمان التي يحلفها، فإن الله سبحانه بيّن أن اليمين لا يكون عائقا عن البر والصلاح وإنما تكفر هذه اليمين ويأتي الذي هو أنفع له ولمجتمعه، لا أن يدمر المجتمع ويضيعه بحجّة أن اليمين عائقاً، فالله سبحانه يحثنا على الخير وإصلاح المجتمعات التي من بدايتها إصلاح الأفراد.
والموضع الآخر الذي دخل على هذه الآيات هو قوله سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(239)} حين بيّن -جل جلاله- مشاكل هذا المجتمع وتشعبه، نبه القارئ إلى الاستراحة التي يلجأ إليها المؤمن وهي الصلاة، لكي يتزود منها نفسيا بالإيمان وبدنيا بالقوة، كيف لا يكون ذلك وهو يسأل ربه في كل ركعة بقوله إياك نعبد وإياك نستعين. فيخرج المؤمن إلى مجتمعه هادئ البال متزن العقل، كأنه للتو جاء إلى الحياة، هذا إذا كان ممن أقام الصلاة لا من أداها.
الشيخ إبراهيم بن الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي